كتبَ نيكوس كازانتزاكيس يقول: “قلتُ لشجرةِ اللوز: حدّثيني عن اللهِ يا أخت، فأزهرتْ شجرة اللوز!”..
يُعدُّ نيكوس من أهمِّ الكتّاب والفلاسفة اليونانيين الروحانيين، أو بمعنى آخر، نستطيع اعتباره من أهلِ التصوّف، وقدْ بدا هذا جليّاً في كتاباته، ويكفيه هذه العبارة العميقة الرائعة في الحديث عن الله، والتي تُزلزل الكيان من جمالها، وتقشعرّ لها الأبدان عند تخيّلها! فما أعظم الله يا أيّها النّاس! وكمْ تعجز الكلمات عن وصفه والحديث عنه!
في هذا الشهرِ الفضيل، شهرُ الله، لمْ أجدْ ما أكتبُ عنه، دخلتُ في حيرةٍ من أمري، إلّا أنَّ هذه الحيرة سُرعان ما تلاشتْ واندثرتْ، وامتلأَ فراغُ الفكرة بالعزيز القهّار! فبينما كنتُ ماشياً نظرتُ إلى السماء وقلتُ لنفسي: حدّث نفسك عن الله يا محمد، حدّث نفسك عن الله وتجليّاته، حدّث نفسك عمّن أنكرَ وجوده! واللهُ موجودٌ في كلِّ شيء، حدّث نفسك عن الذي لا تُدركه الأبصار، حدّث نفسك عن أشعثٍ أغبر نرى الله فيه ببرِّه له، حدّث نفسك عن الرحمن الرحيم، حدّث نفسك عن الذي يُنادي عبادَه إن ابتعدوا، حدّث نفسك عن الذي يقول لهم: أوجدتم ربّاُ غيري؟ حدّث نفسك عن الله الذي إليه راجعون، واسترسلْ وانطلقْ ولا تتهاون في هذا الحديث، فمهما تحدّثت وكتبتْ ستبقى عاجزاً عنْ الوصف، وفي المُقابل مطمئناً ومندهشاً من هذا الحديث، لأنّك ببساطة تتحدّث عن “الله”.
كتبَ الدكتور مصطفى محمود -رحمه الله- في كتابه رأيتُ الله: “الله يُستدلُّ به لا يُستدلُّ عليه، فهو برهان كل شيء، لأنّه الحقُّ المُطلق، فلا نطلبُ على الله برهاناً، فنكونُ كمنْ يَستدلُّ على النورِ بمجيء النّهار، مع أنَّ النّهار لمْ يطلعْ إلّا بفعلِ النّور، فالنور هو الحقّ بذاته الذي يُبرهن على نفسه بنفسه”. هوَ الأوّل والآخر، والظاهرُ والباطن، هوَ المهيمن، والقاهرُ فوقَ عباده، هو الحيُّ القيّوم، هو الرحمن الرحيم، وتجليّاته في كلِّ شيء، من نجومٍ وكواكب ومجرّات في هذا الكون الفسيح اللامتناهٍ. عندما قلتُ لنفسي: حدّثْ نفسك عن الله! حاولتُ مراراً وتكراراً في عقلي أنْ لا أُعطي المقال أيّ طابعٍ للمنطق! وقدْ كان حجر الأساس هو صوفيّة كازانتزاكيس، لأتابعَ بعدها التصوّف في الحديث عن الله، فلا مكانَ للمنطق عندي الآن، مع أنَّ العقلانية لها دور كبير في صقلِ شخصيتي، ولكنّني أفقد هذا العقل -إنْ صحَّ التعبير- في تأمّلاتي الصوفيّة هذه، فهل فعلاً نرى الله؟
في لحظات الصفاء نرى الله، في تجاربنا من فرحٍ وترح نرى الله، في لحظةِ انكسار نرى الله، وعندما نُحِبّ ونهيمُ عشقاً نرى الله، في غصون الأشجار وخضرةِ الغابات نرى الله، في المحيطات وأعماقها الخلّابة نرى الله، في ثورة العلم والتكنولوجيا نرى الله يتجلّى أكثر فأكثر، تضرّعاً لحاجةٍ نرى الله، عندَ انتشال فقير من مأساة نرى الله، وسنبقى نراه إلى آخر العمر ومع آخر نفس. يُنكرون وجود الله، أو بعبارةٍ أخرى يُؤمنون بعدم وجود الله، ولطالما قلتُ أنَّ هؤلاء قُساةُ قلوب يا سادة، وإنْ ادّعوا غيرَ ذلك، يدّعون الإنسانيّة وينكرون خالقها، يدّعون الأخلاقيّة وينكرون مُسيّرها، يدّعون النضال ضدَّ الظُلم، وينكرون الذي حرّمَه على نفسه، وهكذا على طولِ الخطّ، الأمرُ جللْ، وهذا الإنكار هو نوع من الانتحار وقتلٌ لكلِّ شيء في هذا الوجود.
دعوني أعودُ الآن إلى حديثي الخاصّ، وقدْ كنتُ مُصرّاً عليه، مع أنّني لمْ أكنْ مُدركاً لما سأقول! وعشتُ حالةً من التيه وفقدانٍ للتعابير والكلمات، ولكنّني شدّدت إزاري، وشرعتُ بهذا الحديث متردّداً بعضَ الشيء أمام عظمة ربِّ العزّة، رفعتُ وجهيَ للسماء وقلتْ: هوَ ربُّ العباد، وسيدُ الأسياد، إليهُ يرجعُ الأمرُ كلُّه، فأقدارنا بيده فهو الستّير، نكابد تعباً، نتمنّى وجهه الكريم، هو الله هو الرحمن الرحيم، نتيهُ في دنيانا ولكنْ، إليه المصير! نرجو عفواً من ظالمٍ أو سلطان، وننسى الذي أنزلَ الفرقان، وفي الحلِّ والترحال، نردّدُ في سرّنا “يا كبير يا متعالّ”! أولمْ يقلْ لنا: أليس الله بكافٍ عبده؟ ومعْ كلِّ هذا نتوسّلُ غيره! حالُنا عجيبٌ وفي انحدار، ولا نرجو إلّا رضاك يا غفّار! نُجادلُ فيك ونتمنطق، ونرى السفيه يتشدّق، يفتري قائلاً: لا أرى لوجوده من احتمال، وأنتَ الذي قلتَ عن نفسك: “وهو شديد المِحال”، وإنّي لأبكي دماً على هؤلاء وعلى ما يقولون، فاللهمَّ اهدهم فإنّهم لا يعلمون، أزهرت شجرة اللوز في حضرتك، وأدعياءٌ ينكرونك ونحنُ نرجو رحمتك، في النجوم والكواكب، في السهول والحقول، في العاقل والجماد، في الخليّة والجينات، في الأعصاب والأوردة، في أصغر جزء ٍ من النيترون ترى قدرة الله، ومع ذلك سيبقى هؤلاء يُطلّون علينا قائلين: حدّثونا بالمنطق! وأنا سأبقى في خلوتي أقول وأقول: “حدّثيني عن الله”.
الكاتب: م ش