الرد بالتفصيل:
مسألة الرق في الإسلام
إن الشريعة الإسلامية عمدت إلى سائر عوامل الرق التي تأتي من طرف واحد، فقضت عليها قضاءً مبرماً، بمقتضى أحكام تبليغية ثابتة لا يملك أن يوقفها أو يُقيد من شمولها نبي ولا حاكم ولا قاض من القضاة أو مجتهد من المجتهدين؛ من ذلك الرق الذي يتسبب عن تراكم الديون أو فوائدها الربوية، والذي يتسبب عن أشكال من القرصنة في كثير من أصقاع العالم.
أما الاسترقاق الذي يأتي نتيجة تفاعل واحتكاك بين طرفين، وهو الذي كان يتم من أقدم العصور، على أعقاب الحروب، أثراً من آثارها ودخاناً من وراء نيرانها، فقد قضت الشريعة الإسلامية بإدخال حكمه في قائمة ما يُسمى بأحكام الإمامة والسياسة الشرعية، وهي جملة الأحكام التي عهدت الشريعة الإسلامية في البتَ بها إلى ما يراه إمام المسلمين وحاكمهم، بدءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهاءً بآخر إمام يتولى شؤون المسلمين.
ونظام أحكام الإمامة والسياسة الشرعية، يُقابل ما يُسمى في القوانين الوضعية بنظام الأحكام العرفية أو قانون الطوارئ.
غير أن الشريعة الإسلامية لا تُعطي إمام المسلمين الصلاحية في إيقاف القوانين الشرعية الثابتة، وإحلال ما يراه هو باجتهاده الشخصي أو الجماعي محلّها، كما هي الحال في الأنظمة الوضعية. ذلك لأن الحاكم في نظام الشريعة الإسلامية هو الله عز وجل، على كل حال وفي سائر الظروف الطبيعية وغيرها.
ذلك لأن الشريعة الإسلامية لا تُجيز لأمير المؤمنين الحكم باسترقاق الأسرى في الحرب إلا بعد طرح المسألة على بساط المشورة، وبعد التأكد من أن المصلحة العامة استوجبت ذلك، ولا يكون هذا إلا بعد أن نتأكد أن أعدائنا قد استرقوا أسرانا، ثم نتأكد أن مقاومة هذا الظلم لا يتم إلا عن طريق التلويح بالسلاح ذاته. أما القوانين والدساتير الوضعية فما أكثر ما تعطي الحاكم الفرد حق التصرف كما يشاء دون مشورة ولا حاسب ولا رقيب، والحجة القاصمة لها عند أي اعتراض، أن الظروف استثنائية، والدولة تعيش في ظل الأحكام العرفية!
وهذه الصلاحية التي يُعطيها التشريع الإسلامي للحاكم، ليست إلا من قبيل مكافحة الداء بمصل من جرثومته، وليست انتقاماً في مقابل انتقام، والدليل على ذلك أن الشارع سبحانه وتعالى في الوقت الذي أعطى الحاكم هذه الصلاحية، فتح إلى إعتاق الرقيق وتحريره أبواباً لا حصر لها، بحيث يكون الرق مجرد ظرف عابر.
وقد استمر الأئمة والقادة المسلمون يمارسون هذه الصلاحية، طبقاً لما تقتضيه العدالة والمصلحة، إلى أن كان عهد السلطان محمد الفاتح العثماني. فقد أعلن لملوك الفرنجة أن المسلمين حماة الحرية والإنسانية وليسوا دعاة ظلم أو استرقاق، ولكن الذي يمنع المسلمين من ممارسة واجباتهم نحو الأسرى من الإكرام والحفاوة والحماية، إنما هو هذه الوحشية التي تصدر عن الفرنجة بكل فئاتهم في معاملة أسرى المسلمين. ثم أطلعهم على مسودة قانون يقضي بمنع قتل الأسرى أو إيذائهم بأي وجه، وأنبأهم أنه ليس بين المسلمين وبين إعلان هذا القانون وتنفيذه سوى أن يُعلن الطرف الآخر الالتزام بمثل هذا المبدأ. ومن ثم أصدر قانونه المعروف بــ (قانون الحرب) مأخوذاً من كتاب الله وسنة رسوله وسيرته صلى الله عليه وسلم في الحروب.
أما المجتمعات الغربية فقد استمر الرق فيها، لأكثر من سبب واحد، إلى نحو منتصف القرن التاسع عشر. ولم يكن يُنظر إلى الرقيق في أكثر في تلك المجتمعات على أنه إنسان، بل لم يكن للرقيق من الحق، في كثير من البلدان، ما للحيوانات الداجنة كالكلاب ونحوها.
ولنختم ببيان هذه الحقيقة، التي تُشرِّف الإسلام، بقدر ما تصم وجه الحضارة الغربية بالقبح والسواد، بهذه الأسطر التي كتبها محمد فريد وجدي في كتابه: دائرة معارف القرن العشرين:
“اعلم أنه – أي الإسلام – وإن كان أبقاه فلم يؤيده. ولم يقرره بل وهب الأرقاء حقوقاً لم يحلم بها أحرار الأمم السابقة ثم تركه وشأنه حتى يزول مقتضيه من النظام الاجتماعي فيزول هو بنفسه واعلم أنه في العصر الذي كان الإسلام يقول لمتبعيه (إخواكم خولكم) كان الفلاحون في أوروبا مثلهم كمثل الماشية يُباعون مع أرضهم إلى الأغنياء وبقي ذلك فيهم إلى القرن الثامن عشر حتى جاءت الثورة الفرنسية فأحدثت الحرية الشخصية واعلم أن الأوروبيين الذين ينادون الآن بسيئات الاسترقاق ويتهمون المسلمين ودينهم بما هم وهو عنه براء كانوا أشد الأمم كلباً على الاسترقاق وأفظعهم معاملة للرقيق ” .
هذه مشكلاتهم – د.محمد سعيد رمضان البوطي(بتصرف)