الرد بالتفصيل:
الحرية الإنسانية في منظور الشريعة الإسلامية
لا ريب أن هذا الإله الخالق المالك الذي متّع الإنسان بسرّ الإرادة، وأولاه القدرة على التحرك سعياً وراء تحقيق مراداته، فهو الذي أكرمه بالحرية بعد أن متعه بسرّ الانبعاث والإرادة الشخصية. فالإله الذي أكرم الإنسان بكل من الإرادة والحرية، هو المرجع الأول والأخير، في تنسيق العلاقات الإنسانية وتنظيم الحقوق الفردية والاجتماعية، وتحصينها ضد الرعونات الداخلية والمطامع الخارجية.
فالدين الحق هو ثمرة خطاب الله للإنسان عن طريق الوحي، لم يكن يوماً ما في مجمله، إلا تبصيراً بعلاقة الإنسان بخالقه ثم تعريفاً بالنظام الذي ينبغي أن يتبعه للمحافظة على ما قد متعه به من نعمة الإرادة الحرة والقدرة على اتخاذ القرار، ثم السعي إلى تنفيذه، على مستوى كل من الفرد والجماعة، بحيث لا تتصادم الإرادات ولا تأكل الحريات بعضها بعضاً.
ووضع هذا الحل موضع التنفيذ يتطلب أن يتذكر الناس جميعاً هوياتهم الحقيقية وأنهم عبيد مملوكون بحق وصدق للإله الذي خلقهم ثم متعهم بما متعهم به من طاقة وقدرات، وأنهم لا يتمتعون بأي حرية داخلية تنبع من كياناتهم الذاتية.
إن الإنسان، مهما أُشْرِبَ قلبُه حبَّ الاستعلاء والطغيان، بوسعه أن يعلم عبوديته الذاتية الكاملة لله عز وجل، بمجرد أن يتأمل في كيانه الداخلي الذي لا يملك من أمره أي شيء. إنه يرى ذاته مظهراً لجملة أنظمة ونواميس تُهيمن عليه وتحكمه منذ لحظة ولادته إلى ساعة موته، دون أن يقوى على أي تغيير فيها أو تلاعب بها.
فإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من المعرفة، تهيأ لقبول كل ما يخاطبه الله به من الأوامر والتعليمات، واثقاً بأنها لا تحمل له إلا الخير ولا تبعده إلا عن الشر، مهما بدت ثقيلة القيود أو كثيرة التكاليف. وتحت مظلة هذا القبول الخاضع يتعايش الناس متوادّين متساوين لا يبغي قوي فيهم على ضعيف ولا تتربص الحريات بعضها ببعض.
ومع ذلك فإن الله عز وجل في الوقت الذي كلف الناس أن يُقيدوا من حرياتهم بما يعود خيره لهم جميعاً وفي سبيل أن يحمل بعضهم بعضاً، لم يجعل من هذا التكليف قيوداً فعلية وتطبيقية في هذه الحياة الدنيا، إلا في حدود ما تقتضيه مصالحهم الضرورية، وما يقتضيه مبدأ الرعاية لحرياتهم وحقوقهم العامة؛ وترك ما وراء ذلك لرغباتهم الشخصية في الانصياع أو عدمه، على أن يُجزيهم يوم القيامة، مقابل الانصياع مثوبة وأجراً، ومقابل الرفض والإعراض عقوبة وعذاباً.
فهو سبحانه كلفهم مثلاً أن يعرفوا عبوديتهم لله عز وجل، كما كلفهم بأن يضعوا عبوديتهم لله عز وجل موضع التنفيذ من حياتهم، فينهضوا بأداء العبادات التي ألزمهم والتي تُسمى بحقوق الله سبحانه وتعالى.
غير أنه سبحانه – وقد كلفهم بكل ذلك – لم يلاحقهم لتنفيذ ذلك بأي إجراءات قضائية في هذه الحياة الدنيا؛ بل تركهم، بعد هذا التكليف، أحراراً: إن شاؤوا الاستجابة والانصياع، أثابهم على ذلك بما ألزم نفسه به من السعادة في الدنيا والأجر غير المحدود في الحياة الأخرى. وإن شاؤوا الإعراض والرفض، وكلهم إلى أنفسهم فيما قد تجرهم إليه من الشقوة والاضطراب في الدنيا، وتوعّدهم بالعقاب الشديد يوم القيامة.
إلا أن من وراء ذلك، تكاليف أخرى، تدخل فيما يُسمى بحقوق العباد؛ مدارها جميعاً على إقامة موازين العدل وقطع دابر البغي، وترسيخ المناخ الاجتماعي الذي يتكفل بأن يتعايش الناس فيما بينهم أعزّة مكرَّمين، لا ينال بعضهم من بعض ظلماً ولا هضماً.
إن أهمية حقوق العباد تقتضي المحافظة عليها على درجتين، الأولى عن طريق المؤيدات الأخروية المتمثلة في الثواب والعقاب، والثانية عن طريق المؤيدات الدنيوية المتمثلة في المتابعة القضائية ورسم العقوبات الحدية أو التعزيرية. وهذا ما قضت به الشريعة الإسلامية. وهو المبدأ الذي تخضع له الأنظمة الوضعية ويقتضيه سير العدالة الاجتماعية.
والحقوق الإنسانية التي تقوم الشريعة الإسلامية بحمايتها، منها ما يدخل في الحقوق المادية أو العينية كالنفس والمال وسائر الممتلكات، ومنها ما يدخل تحت اسم الحقوق المعنوية كالسمعة والكرامة، والعرض، والقيم الاعتبارية التي قد يتحلى بها الإنسان. فهذه كلها تدخل تحت اسم الحقوق الإنسانية.
فقد قررت الشريعة الإسلامية من خلال نصوص صريحة جازمة في كتاب الله وسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام. عقوبات محددة للقتل والزنا والسرقة والحرابة والشرب، والقذف (الشتم بما يتضمن الاتهام بالزنا أو ممارسة الدعارة دون برهان) وفرضت عقوبات تعزيرية يحددها القضاء فيما دون ذلك من الإساءات التي قد تتم في حق الآخرين سواء أكانت إساءات مادية أو معنوية.
فنتبين مما سبق مدى سماحة الإسلام ورعايته لحريات الناس ورغباتهم، في نطاق حياتهم الدنيوية هذه. فحسبة أنه ترك الناس أحراراً بصدد التكاليف التي خاطبهم بها، ما دامت عائدة إلى حقوق الله عز وجل ولا يتسبب عن إهمالها تضييع شيء من حقوق الناس. وأرجأ مقاضاتهم ومعاقبتهم على ذلك إلى يوم القيامة. ولم ينتقص من حرياتهم إلا بمقدار ما يكون ضمانة لأداء حقوق الناس، ورعايتهم بعضهم لبعض، كي لا يتحول اسم الحرية إلى جرثومة تفتك بجوهر الحرية ذاتها وتهدر كرامة الإنسان.
هذه مشكلاتهم – د. محمد سعيد رمضان البوطي( بتصرف )