تقول الشبهة بالتفصيل:
إن حَمَلَةَ السُّنةِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ ومنْ بَعدَهُم كانُوا جُنوداً للسلاطينِ والملوكِ في العصرِ الأمويِّ والعبَّاسيِّ فكانُوا يضعونَ لَهم مِنَ الأَحاديثِ ما يُوافِقُ رغَباتِهم ويثبتُ مُلكَهُم.
الرد على هذه الشبهة :
ولقدْ أجابَ الدُّكتورُ مُصطفى السِّباعي على هذا الزَّعمِ الباطِلِ في كِتابِهِ مكانةُ السّنّةِ في التَّشريعِ الإسلاميّ فّقال: “إنّ َأعداءّ الإسلامِ منْ غُلاةِ الشّيعةِ وَالمستشرقينَ ودُعاةِ الإلحادِ، لمْ يصِلُوا وَلَن يصلُوا إلى مدَى السّمو الّذي يَتّصفُ بهِ رُواةُ السّنَّةِ مِنَ التَّرفّعِ عَنِ الكَذبِ حتَّى في حياتِهم العاديةِ، بلْ ولنْ يَصلُ أعداءُ الإسلامِ إلى مبلغِ الخَوفِ الذي استقرَّ في نفوسِهمْ بِجَنبِ اللهِ خشيةً ورهبةً، ولا مَدى استنكارِهِمْ لجريمةِ الكذبِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم َحتَّى قالَ مِنهُم مَنْ قالَ بِكفرِ مَنْ يَفعلُ ذلكَ وقَتْلِهِ وعدمِ قبولِ توبَتِهِ، إنَّ أعداءَ الإسلامِ مَعذورونَ إذْ لمْ يَفهمُوا عَنْ عُلمائِنا هذهِ الخصائصَ لأنَّهُ لا يوجدُ لَها ظِلٌّ في نفوسِهم وَلا فيمَنْ حولَهم، ومنِ اعتادَ الكذِبَ ظَنَّ في النَّاسِ أنَّهم أكْذَبُ منْهُ، واللِّصُّ يَظنُّ النَّاسَ لصوصاً مثلَهُ، وإلَّا فَمَن الذي يَقولُ في قومٍ جاهَرُوا بالإنكارِ علَى بعضِ ولاتِهِمْ لأنَّهم خالَفُوا بعضَ أحكامِ السّنّةِ، وَتعرَّضَ بعضهُمْ للضَّربِ والإهانةِ والتَّنكيلِ في سَبيلِ الجهرِ بِكلمةِ الحقِّ، منْ يقولُ: إنَّ هؤلاءِ استباحوا لأنفسِهمْ الكذبَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، ليضيفُوا إلى سنّتِهِ أحكاماً لمْ يَقُلْها”.ا هـ
نعمْ، إنَّ قوماً لمْ يحابُوا في حُكمِهِمْ علَى الرّجالِ أحداً لا أباً ولا ابناً ولا أخاً ولا صديقاً ولا شيخاً، إنَّ ذلكَ لَعُنوَانُ صدقِ ديانَتِهم ونَزاهَتِهِم وأمانَتِهِم، وعُنوانُ إجلالِ الحفَّاظِ للسّنَةِ النَّبويةِ الشّريفةِ، وأنَّها عندَهُم أغلى منَ الآباءِ والأجدادِ والأولادِ والأحفادِ، فَكانُوا مَضرِبَ المثَلِ في الصّدقِ والتَّقوى والأمانَةِ.
وهاكَ أمثلةً على نزاهَتِهِم في حُكمِهِم على الرِّجال :
1- المُجَرِّحُونَ لآبائِهِمْ:
الإمامُ عليّ بنُ المديني سُئِلَ عنْ أبيهِ فقالَ: “سَلوا عَنْهُ غَيري” فأعادُوا المسألَةَ، فَأطْرقَ، ثُمَّ رَفَعَ رأسَهُ فقالَ: “هُوَ الدِّينُ، إِنَّهُ ضَعِيفٌ”.
2- المجرِّحونَ لأبنائِهِمْ:
الإمامُ أبو داودٍ السّجستانيّ “صاحبُ السُّننِ” قالَ: “ابني عَبدُ اللهِ كَذَّابٌ”. ونَحوَهُ قولُ الذّهبيّ في ولدِهِ أبي هُرَيرةَ: “إنَّهُ حَفظَ القرآنَ، ثُمَّ تَشاغلَ عنْهُ حتَّى نَسيَهُ”.
3- المجرِّحونَ لإخوانِهِمْ:
زَيدُ بنُ أبي أنيسة قالَ: “لا تأخذُوا عنْ أخي يحيى المذكورِ بالكَذِبِ”.
4- المجرِّحونَ لأصْهارِهِمْ وأختَانِهِمْ:
شُعبةُ بنُ الحجَّاجِ قالَ: “لو حابَيتُ أحداً لحابَيتُ هشامَ بنَ حسّانٍ كانَ خَتَنِي، ولمْ يكنْ يَحفَظُ”.
5- المجرِّحونَ لبَعضِ أقارِبِهِمْ:
أبو عروبةِ الحرَّاني: “قالَ الذّهبيّ في ترجمةِ الحسينِ بنِ أبي السّريّ العَسقلانيّ: “قالَ أبو عروبةٍ: هوَ خالُ أمّي، وهوَ كَذّابٌ”.
6- ومنَ الذينَ لمْ يُحابُوا مَشايخَهم:
روى الإمامُ ابنُ أبي حاتمٍ عنْ عبدِ الرّحمنِ بنِ مهديّ قالَ: “اختلَفُوا يوماً عندَ شعبةَ، فَقَالُوا: اجعلْ بينَنا وبينَكَ حكَمَاً فَقالَ: قدْ رَضيتُ بالأحولِ يعني: يحيى بنَ سَعيدٍ القطّانُ، فما بَرِحنا حتَّى جاءَ يَحيى، فَتَحاكَمُوا إليه فَقَضى على شعبةَ وهوَ شَيخُهُ ومنهُ تعلّمَ وبهِ تخرَّجَ، فقالَ لهُ شعبة: ومَنْ يطيقُ نقدَكَ – أو منْ لهُ مثل نقدِكَ – يا أحولُ؟!
قالَ ابنُ أبي حاتمٍ: هذهِ غايةُ المنزلةِ لِيحيى بنِ سعيدٍ القطّانِ، إذْ اختارَهُ شَيخُهُ شعبةَ منْ بينِ أهلِ العلمِ، ثمَّ بلغَ منْ عدالَتِهِ بنفسِهِ وصَلابَتِهِ في دينهِ أنْ قَضى على شعبةَ شيخِهِ ومُعلّمِهِ”.
وبلغَ منْ نزاهَةِ أئمّةِ الحديثِ أنَّهُم كانُوا لا يَقبلونَ شفاعةَ إخوانِهِمْ لِلسّكوتِ عمّنْ يَرونَ جَرحَهُ، وكيفَ يَرتضونَ تلكَ الواسطةَ وهمْ الذينَ طَعَنُوا في أبنائِهِم وآبائِهِم وإخوانِهم، لما رأَوا منْهم ما يَستوجب القدحَ.
أمّا عنْ مَوقفِ الصّحابةِ والتّابعينَ فَمَنْ بعدَهم منْ أئمّةِ الإسلامِ مِنْ ملوكِهم وأمرائِهِم فَالنّماذِجُ المشرّفةُ الدّالّةُ علَى ذلكَ كثيرةٌ، فَمِنها على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ، موقفُ أبي سعيدٍ الخدريّ منْ مروانَ والي المدينةِ، وموقـفُ ابنِ عمرَ منَ الحجَّاجِ، وموقفُ الإمامِ الزّهريّ معَ هشـامِ بنِ عبدِ الملكِ الأمويّ، وغيرِهم الكثيرُ والكثيرُ .