بسم الله الرحمن الرحيم
الشُّبهة وردُّها بالتَّفصيل :
تقولُ الشُّبهة :
معلومٌ عندَ أهلِ اللُّغةِ بأنَّ التّكرارَ في الكلامِ من الأمورِ المُخلّةِ فِي البَيانِ، ويدلُّ ذلكَ على نقصٍ في بلاغَةِ الكاتبِ، وقد وردَ في القرآنِ مواضعٌ لآياتٍ تكرَّرَت كثيراً حتَّى في السُّورةِ الواحدةِ كَمَا هوَ الحَالُ في سورَةِ الرَّحمنِ { فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [سورة الـرحـمـن,١٣]
وفي سورةِ المُرسلاتِ { وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ } [سورة الـمرسلات,١٥]
، وهذا يدلُّ على عدمِ بلاغةِ القرآنِ !
الرَّدُّ مفصَّلاً :
التكرارُ على ضربينِ: أحدُهما مَذمومٌ وهُوَ ما كانَ مُستغنَىً عنهُ، غيرَ مُستفادٍ بِه زيادةَ معنىً لم يُستفاد بالكلامِ الأوَّلِ لأنّهُ حينئذٍ يكونُ فَضلاً منَ القولِ ولَغْواً، وليسَ في القرآنِ شَيءٌ من هذا النَّوعِ.
والضّربُ الآخرُ مَا كانَ بِخلافِ هذهِ الصّفةِ، فإنَّ تركَ التّكرارِ في الموضعِ الّذي يَقتَضِيهِ وتَدعو الحاجَةُ إليهِ، يُشعرُ بنقصٍ في الكلامِ وأهميِّةِ المتَكلّمِ بهِ، فيُحتاجُ إليهِ ويَحسنُ استعمالُهُ في الأمورِ المهمَّةِ الّتي قد تعظمُ العنايةُ بِهَا، ويُخافُ بتركِ التّكرارِ وقوعُ الغلطِ والنّسيانِ فيها والاستهانةِ بقَدرِهَا، وَقَد يقولُ الرَّجلُ لِصَاحِبِهِ فِي الحثِّ والتَّحريضِ عَلى العملِ: العَجَلَ العَجل… كما يُكتَبُ في الأمُورِ المهمّةِ على ظهورِ الكتبِ: مهم مهم… ونحوَهَا منَ الأُمورِ، ومنهُ قولُ الشَّاعرُ: هلّا سألتَ جموعَ كِنــ ـدة يومَ ولَّوا أينَ أينا
وقد أخبرَ اللهُ عزَّ وجلَّ بالسَّببِ الّذي مِن أجلِهِ كرَّرَ الأقاصِيصَ والأخبارَ في القرآنِ فقالَ سبحانَهُ: { وَلَقَدۡ وَصَّلۡنَا لَهُمُ ٱلۡقَوۡلَ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ } [سورة القصص,٥١]
، وقالَ تَعالى: { وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا وَصَرَّفۡنَا فِيهِ مِنَ ٱلۡوَعِيدِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ أَوۡ يُحۡدِثُ لَهُمۡ ذِكۡرٗا } [سورة طه,١١٣]
وأمَّا سورةُ الرَّحمنِ فإنَّ اللهَ سبحانهُ خاطبَ بها الثَّقلَينِ منَ الإنسِ والجنِّ، وعدَّدَ عليهم أنواعَ نِعَمهِ الّتي خلَقَها لَهم، فكلَّما ذكرَ فَصلاً مِن فُصولِ النِّعمِ جدَّدَ إقرارَهُم بِه واقتضاءَهُم الشُّكرَ عليهِ، وهيَ أنواعٌ مختلفةٌ وفنونٌ شتىً، وكذلكَ هوَ في سورةِ المُرسلاتِ فقد ذكرَ أحوالَ يومِ القيامةِ وأهوالَها فقدَّمَ الوَعيدَ فيها وجدَّدَ القولَ عندَ ذكرِ كلِّ حالٍ من أحوالِهَا؛ لِتَكونَ أبلغَ في القرآنِ وأوكدَ لإقامةِ الحُجَّةِ والإعذارِ، ومواقعُ البلاغةِ معتبرةٌ لمواضِعِهَا مِنَ الحَاجَةِ.
فإن قيلَ: إذا كانَ معنى في تكريرِ قولِهِ تَعالى: { فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [سورة الـرحـمـن,١٣]
تجديدُ النّعمِ في هذهِ السُّورةِ واقتضاءُ الشّكرِ عليها فما مَعنى قولهُ تَعالى: {يُرْسَلُ عَلَيۡكُمَا شُوَاظٞ مِّن نَّارٖ وَنُحَاسٞ فَلَا تَنتَصِرَانِ } [سورة الـرحـمـن,٣٥]
ثمَّ أتبعَهُ بِقَولِهِ: { فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } وأيُّ مَوضعٍ نعمةٌ ههنا وهوَ إنَّما يتوعَّدُهم بِلَهبِ السَّعيرِ والدّخانِ المُستطيرِ؟
قيلَ: إنَّ نعمةَ اللهِ تَعالى فيما أنذرَ بهِ وحذّرَ من عقوباتِهِ علَى معاصيهِ لِيحذَرُوها فَيرتَدِعُوا عَنها بإزاءِ نعمهِ على ما وعدَ وبشَّرَ من ثوابِهِ على طَاعَتِهِ لِيرغَبُوا فِيها ويَحرصوا عَليها، وإنَّما تُحقَّق معرفةُ الشَّيءِ بأن يُعتَبَرَ بِضِدِّهِ لِيوقفَ على حدِّهِ، وكما قيلَ: وبضدِّهَا تتميَّزُ الأشياءُ.
والوعدُ والوعيدُ وإنْ تقابَلا في ذواتِهِمَا فإنَّهما مُتوازِيَانِ في مَوضعِ النِّعمِ بالتَّوقيفِ على مَآلِ أمرهِمَا والإبَانَةِ عَلى عَوَاقبِ مصيرِهِمَا، وعَلى هذا ما قالَهُ بعضُ الشُّعراءِ:
والحادِثَاتُ وإنْ أصابَكَ بُؤسُهَا فَهُوَ الّذي أَنبَاكَ كَيفَ نَعيمُهَا
أ. مَدْيَن عَرَفَة