الرَّد على الشُّبهةِ بالتَّفصيل :
رضاعُ الكبيرِ هل يحرّم أم لا ، و أقوالُ الفقهاءِ فيهِ ؟
منَ الشُّبهِ الّتي يُطعنُ فيها دينُنُا أقوالٌ شاذَّةٌ تُخالفُ إجماعَ الأمَّةِ و قواعدَ الإسلامِ و مقاصِدَهُ تقولُ: بحرمَةِ رضاعِ الكَبيرِ، أي أنَّ الكبيرَ إذا رضعَ حليبَ امرأةٍ حرمَتْ عليهِ و صارَتْ أمَّهُ مِنَ الرّضاعَةِ.
و قد خرجَ بعضُ العلماءِ المعاصرينَ الذينَ لا غايةَ لهمْ إلا طرح الأقوالِ الشّاذّةِ ليُعرَفوا بينَ الناسِ، أو لا علمَ لهم بالفتوى و لا درايَة ــ فليسَ كلُّ عالمٍ بالدِّينِ يتصدَّرُ للفتوى و يكونُ أهلاً لهاــ فيطرحونَ هذا القولَ على المنابرِ و الصُّحفِ و كتاباتِهم و كتبِهم، ممّا جعلَ أعداءَ الدّينِ يزدادونَ تهجُّمَاً و تهتُّكاً بدينِ اللهِ .
سنلخِّصُ لكم هذا البحثَ معَ الأدلَّةِ و مناقشَتِها و أقوالِ العلماءِ فيها .
مدارُ الموضوعِ كلِّه يرجعُ إلى الحديثِ الّذي في صحيحِ مسلم
عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالَتْ: جاءَتْ سهلةُ بنتُ سهيلٍ إلى رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَتْ: يا رسولَ اللهِ: والله إنّي لأرَى في وجْهِ أبِي حذيفةَ مِنْ دخولِ سالمٍ: قالَت: قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ( أرضِعِيهِ )، فقالَتْ: إنَّهُ ذو لحيَةٍ، فقالَ: ( أرضعيهِ يذهَبْ ما في وجهِ أبِي حُذيفةَ )، فقالَتْ: واللهِ مَا عرفتُهُ في وجهِ أبي حُذيفةَ .
فهمَ بعضُ الفقهاءِ مِن هذا الحديثِ أنَّ رضاعَ الكبيرِ يحرِّمُ كما هوَ الظَّاهرُ من هذا الحديثِ ، فقالُوا : ” تثبتُ بهِ الحرمةُ في حقِّ الدُّخولِ والخلوةِ إذا كانَ قد تربّى في البَيتِ بحيثُ لا يحتشِمُونَ منهُ للحاجةِ ” .
وهذا القولُ قالَتْ بهِ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها ومِنَ التَّابعينَ عطاءٌ واللّيثُ وهوَ مذهبُ داودَ بنِ خلفٍ الظَّاهريِّ – مؤسسِ المذهبِ الظَّاهريِّ ــ و هوَ قولُ ابنِ تيميَّةَ و ابنِ القيِّمِ من المتأخّرينَ.
وذهبَ جمهورُ الصَّحابةِ كابنِ مَسعودٍ، وابنِ عمرَ، وأبي هريرةَ، وابنِ عباسٍ. و زوجاتِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ عَدا عائِشَةَ رضيَ اللهُ عنها والأئمةِ الأربعةِ أبي حنيفةَ و مالكٍ و الشّافعيّ و أحمدَ إلى أنَّ رضاعَ الكبيرِ لا يحرّم
و ادَّعى بذلكَ الإجماعِ بعضُ العلماءِ منهم الحافظُ ابنُ عبدِ البر
أدلَّتهم و قولُهم في حديثِ سالمٍ :
استدلَّ جمهورُ الفقهاءِ رضيَ الله عنهم بنصوصٍ صَريحةٍ منَ القرآنِ والسُّنةِ تقولُ بمنتهى الصَّراحةِ أنَّ الرضاعةَ المحرمةَ من المجاعةِ أي مَا أنبَتَ اللّحمَ أي في فترةِ الصغرِ قبلَ الفطامِ
1- قول الله تعالى : { وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ } [البقرة: 233]
2- قالَ رسول الله في الحديث المتفق عليه ( إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ ) ومعناها : ” أنَّ الرَّضَاعَ مَا أَنَبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ” وهذا هو الرَّضاعُ الَّذي تثبت به البنوَّةُ والأخوَّةُ لأنَّها بذلِك تكونُ قد شاركَت في بناءِ لحمهِ ودمهِ وجِسمه بلبنِها فتكونُ أمّاً له مثلها مثلَ أمهِ الّتي نبتَ لحمه ُودمُهُ مِن غذاءِهِ في رحِمِهَا
3- في التِّرمذي وصححهِ عن أمِّ سلمَةَ مرفوعَاً : (لا يحرمُ منَ الرضاعِ إلّا ما فتقَ الأمعاءَ وكانَ قبلَ الفِطامِ )
و4- للدّارقطني عن ابنِ عبّاسٍ يرفعهُ : (لا رضاعَ إلّا في الحولَينِ )
وعند أبي داودَ عن ابنِ مسعودٍ يرفعُه : ( لا رضاعَ إلا ما أنبَتَ اللَّحمَ وأنشَزَ العظمَ )
أقوالُ العلماءِ في حديثِ سالمٍ :
حديثُ سالمٍ و هوَ ما يُفيدِ بظاهرِهِ رضاعَ الكبيرِ ممّا تلقتْهُ الأمَّةُ بالقبولِ روايةً ودرايةً،
أمّا الروايةُ فقد بلغَت طرقُ هذا الحديثِ نصابَ التَّواترِ كما قالَ الإمامُ الشّوكانيُّ [نيل الأوطار]
وأمّا الدّرايةُ فقد تلقّوهُ بالقبولِ على أنّهُ واقعةُ عينٍ بسالمٍ لا تتعدّاهُ إلى غيرِهِ ولا تلحُّ للاحتجاجِ بها.
قالَ الحافظُ ابنُ عبدِ البرِّ : ” هذا يدلُّ على أنَّهُ حديثٌ تُرِكَ قديماً ولم يُعمَل بِهِ ، ولا تلقَّاهُ الجمهورُ بالقبولِ على عمومِهِ ، بل تلقّوهُ على أنَّهُ خصوصٌ “[شرح الزرقاني على الموطأ]
و استدلُّوا بالتَّخصيصِ :
روايةَ الدَّارميِّ عقبَ ذكرهِ الحديثَ في سنَنِهِ : “هذا لسالمٍ خاصَّةً “
بقولِ زوجاتِ النّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ :
ففي صحيحِ مسلمٍ عن أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَقُولُ : أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ أَحَدًا برضَاعَةِ ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ : وَاللَّهِ مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً ، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ وَلَا رَائِينَا
و ذهبَ بعضُهم إلى أنَّ الحديثَ منسوخٌ بل وجزمَ بنسخِهِ الإمامُ الطبريُّ والجصاص في الأحكامِ.
و منَ المعقولِ :
حادثةُ سالمٍ مَولى أبي حَذيفةَ رضيَ اللهُ عنهُ قد كانَتْ مُعالجةً لظرفٍ كانَ مَوجوداً قبلَ الإسلامِ وهوَ التّبنّي، وقد حسمَهُ الإسلامُ فلا يُعقلُ تكرُّرهُ .
قالَ العلماءُ : إنَّ قِصَّةَ رضاعةِ سالمٍ قضيَّةُ عينٍ لم تأتِ في غيرِهِ، واحتفَت بها قرينُةُ التّبنّي ، وصفاتٌ لا توجدُ في غيرِهِ ، فلا يُقاسُ عليهِ .