الشّبهة ُبالتّفصيلِ:
وَمنَ الشّبهاتِ التي يُردّدُها المستشرقونَ وَ أذنابُهُمْ هوَ ما فَهموهُ مِنْ قَولِهِ تَعالى{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام : 38] ، وقولِهِ سُبحانهُ : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ } [النحل : 89] .
فَقالُوا : إنَّ هذهِ الآياتِ وَأمثالُها تدلُّ على أنَّ الكتابَ قدْ حوَى كلَّ شيءٍ منْ أمورِ الدّينِ ، وكلَّ حُكم ٍمنْ أحكامهِ ، وأنه بيَّن ذلكَ وفصَّلهُ بحيثِ لا يَحتاجُ إلى شيءٍ آخرَ ، وإلّا كانَ الكتابُ مفرِّطاً فيهِ ، وَلما كانَ تِبياناً لكلِّ شَيءٍ ، فَيلزمُ الخُلْف في خبرهِ سُبحانهُ وتعالى .
الردُّ على هذهِ الشّبهةِ و تَفنيدُها :
وَجواباً عَلى هذهَ الشّبهةِ يُقالُ : ليسَ المرادُ منْ الكتابِ في قولهِ تَعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } القرآنَ ، وإنَّما المرادُ بهِ اللّوحُ المحفوظُ ، فإنّهُ هوَ الذي حَوَى كلَّ شيءٍ ، وَاشتملَ على جميعِ أحوالِ المخلوقاتِ كبيرِها وَصغيرِها ، جَليلِها وَدَقيقِها ، ماضيها وَحاضرِها ومستقبلِها ، على التّفصيلِ التّامّ ، بِدَلالةِ سياقِ الآيةِ نَفسِها حيثُ ذكرَ اللهُ عزَّ وجلَّ هذهِ الجملةَ عقبِ قولِهِ سبحانهُ : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [الأنعام : 38] أي مكتوبةٌ أرزاقُها وآجالُها وأعمالُها كُما كُتبتْ أرزاقُكمْ وآجالُكمْ وأعمالُكمْ، كلُّ ذلكَ مسطورٌ مكتوبٌ في اللّوحِ المحفوظِ لا يَخفَى على اللهِ منهُ شيءٌ .
وعلى التّسليمِ بأنَّ المرادَ بالكتابِ في هذا الآيةُ القرآنُ ، كَما هوَ في الآيةِ الثّانيةِ وهيَ قولُهُ سبحانَهُ : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ } فالمعنى أنَّهُ لمْ يفرِّطْ في شَيءٍ منْ أمورِ الدِّينِ وأحكامِهِ ، وأنّهُ بيَّنها جَميعاً بياناً وافياً .
ولكنْ هذا البيانُ إمَّا أنْ يكونَ بطريقِ النّصِّ مثلِ : بيانِ أصولِ الدّينِ وعَقائدِهِ وقواعدِ الأحكامِ العامّةِ ، فبيَّنَ اللهُ في كتابِهِ وجوبَ الصّلاةِ والزّكاةِ والصَومِ والحجِّ ، وحِلِّ البيعِ والنّكاحِ ، وحرمةِ الرِّبا والفواحشَ ، وحِلِّ أكلِ الطيّباتِ ، وحُرْمةِ أكلِ الخبائثِ على جِهةِ الإجمالِ والعُمومِ ، وتَرَكَ بيانَ التَفاصيلِ والجُزئيَّاتِ لِرَسولهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ . ولهذا لمّا قيلَ لمُطَرِّف بنِ عبدِ اللهِ بنِ الشِخِّيرِ : ” لا تُحدِّثونا إلَّا بالقرآنِ قالَ : واللهِ مَا نَبغي بالقرآنِ بَدَلاً، ولكِنْ نُريدُ مَن هُوَ أَعلمُ منَّا بالقرآنِ .<< لَا تُحَدِّثُونَا إِلَّا بِالْقُرْآنِ فَقَالَ لَهُ مُطَرِّفٌ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ بِالْقُرْآنِ بَدَلًا وَلَكِنْ نُرِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مِنَّا >> [جامع بيان العلم وفضله]
ورُوِيَ عَن عِمرانَ بنِ حصينٍ أنّه قالَ لِرجلٍ يحملُ تلكَ الشبهةَ : ” إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، لَا تَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، ثُمَّ عَدَّدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَنَحْوَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَتَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ مُفَسَّرًا، إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْهَمَ هَذَا وَإِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ ذَلِكَ ” [جامع بيان العلم وفضله]
وإمَّا أنْ يكونَ بيانُ القرآنِ بطريقِ الإحالةِ على دليلٍ من الأدلّةِ الأخرى الّتي اعتَبَرها الشَّارعُ في كتابِه أدلةً وحُجَجاً على خَلقِهِ .
فكلُّ حُكمٍ بيّنتهُ السنَّةُ أو الإجماعُ أو القياسُ أو غيرُ ذلكَ من الأدلّةِ المعتَبَرةِ ، فالقرآنُ مبَيِّنٌ لهُ حقيقةً ، لأنّه أرشدَ إليهِ وأوجبَ العملَ بهِ ، وبِهذا المعنى تكونُ جميعُ أحكامِ الشَّريعةِ راجعةً إلى القرآنِ .
فنحنُ عندما نتمسّكُ بالسنةِ ونعملُ بما جاءَ فيها إنّما نعملُ في الحقيقةِ بكتابِ اللهِ تعالى ، ولهذا لمّا قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ : ( لعنَ اللهُ الواشماتِ و المستوشماتِ والمتنمِّصاتِ و المتفلّجاتِ للحُسنِ ، المغيِّراتِ خلقَ اللهِ ) ، بلغَ ذلكَ امرأةً منْ بني أسدٍ يُقالُ لها أمُّ يعقوبَ ، فجاءتْ إليهِ وقالتْ : إنّه بلغني عنكَ أنَّكَ لعنْتَ كيتَ وكيت ، فقالَ ومَا لي لا ألعنُ منْ لعنَ رسولُ اللهِ – صلَى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – ومَنْ هُو في كتابِ اللهِ ، فقالتْ : لقد قرأتُ ما بينَ اللّوحينِ فما وجدْتُ فيهِ ما تقولُ ، قالَ : لئنْ كنتِ قرأتيهِ لقدْ وجدْتِيهِ أمَا قرأتِ { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }[الحشر : 7] ؟! قالتْ : بَلَى ، قالَ : فإنّه قد نَهى عنْهُ .
وحُكِي أنَّ الشَّافعيَّ رحمهُ اللهُ كانَ جالساً في المسجدِ الحرامِ فقالَ : ” لا تسألوني عنْ شَيءٍ إلّا أجبتُكُم فيهِ منْ كتابِ اللهِ تعالى ، فقالَ رجلٌ : مَا تقولُ في المُحْرِم إذا قتلَ الزُّنْبُورَ ؟ فقالَ لا شيءَ عليهِ ؟ فقالَ : أينَ هذا في كتابِ اللهِ ؟ فقالَ : قالَ اللهُ تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } ، ثمَّ ذكرَ إسناداً إلى النّبيِّ- صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – في الحديثِ الّذي رواهُ التّرمذيُّ أنّه قالَ : (عَليكمْ بسنّتي وسنّةِ الخُلفاءِ الرّاشدينَ مِن بَعديْ) ، ثمَّ ذكرَ إسناداً إلى عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ أنّهُ قالَ : ” للمُحْرِم قتلَ الزُّنْبُور ” فأجابهُ مِن كتابِ اللهِ قالَ الإمامُ الخطابيُّ رحمهُ اللهُ : ” أخبرَ سبحانَهُ أنَّهُ لَم يُغادرْ شيئاً مِن أمرِ الدّينِ لَم يتضمَّن بيانَهُ الكتابُ ، إلّا أنَّ البيانَ عَلى ضَربَينِ : بيانٌ جَلِيّ تناولَهُ الذّكرُ نصّاً وبيانٌ خفِيٌّ اشتملَ عليهِ معنى التّلاوةِ ضِمنَاً ، فَمَا كانَ مِن هذا الضّربِ كَان تفصيلُ بيانِهِ مَوكولاً إلى النّبيِّ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – وهوَ معنى قولِه سبحانَهُ : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل : 44] ، فمَن جَمَعَ بينَ الكِتابِ والسُنَّةِ فقدِ استوفَى وجهَي البيانِ, وبذلكَ يتبيَّنُ ضلالُ هؤلاءِ وسُوءُ فَهمهمْ وتهافتِ شبُهاتهمْ ، وأنّهُ لا مُنافاةَ بينَ حجّيّةِ السّنةِ وبينَ كونِ القُرآنِ تِبياناً لكلِّ شيءٍ ، والحمدُ للهِ أوّلاً وآخراً .