التفصيل
منَ الشّبهاتِ التي ادّعاها بعضُ غُلاةِ المستشرقينَ منْ قديمٍ ، وأقامَ بناءَها على وهمٍ فاسدٍ هيَ أنَّ الحديثَ بقيَ مائتي سَنةً غيرَ مكتوبٍ ، ثمَّ بعدَ هذهِ المدّةِ الطّويلةِ قرّرَ المحدّثونَ جمعَ الحديثِ وقدْ ردّدَ عددٌ منَ المستشرقينَ هذهِ الشُّبهةَ منهمْ جولد زيهر وشبرنجر ، ودوزي ، فقدْ عقدَ << جولد زيهر >> فَصلاً خاصّاً حولَ تدوينِ الحديثِ في كتابِهِ [دراساتٌ إسلاميّةٌ] وشكّكَ في صحّةِ وجودِ صحُفٍ كثيرةٍ في عهدِ الرّسولِ – صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ- ، ورأى << شبرنجر >> في كتابهِ [الحديثَ عندَ العربِ] أنَّ الشّروعَ في التّدوينِ وقعَ في القرنِ الهجريّ الثّاني ، وأنَّ السّنةَ انتقلَتْ بطريقِ المشافهةِ فقط ، أمّا << دوزي >> فهوَ ينكرُ نسبةَ هذهِ الترّكةِ المجهولةِ – بزعمِهِ – منْ الأحاديثِ إلى الرَّسولِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ .
وقدْ أرادَ المستشرقونَ منْ وراءِ هذهِ المزاعمِ إضعافَ الثّقةِ باستظهارِ السّنةِ وحِفظِها في الصّدورِ ، والتّشكيكَ في صحّةِ الحديثِ واتّهامِهِ بالاختلاقِ والوَضعِ على ألسنةِ المدوّنينَ ، وأنَّهمْ لمْ يجمعُوا منَ الأحاديثِ إلَّا ما يوافقُ أهواءَهمْ ، وصارُوا يأخذونَ عمَّن سَمعُوا الأحاديثَ ، فصارَ هؤلاءُ يقولُ الواحدُ منهمْ : سَمعْتُ فُلاناً يقولُ سمعْتُ فُلاناً عنِ النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ، وبما أنَّ الفتنةَ أدّتْ إلى ظهورِ الانقساماتِ والفِرَقِ السّياسيّةِ ، فقدْ قامَتْ بعضُ الفِرَقِ بوَضعِ أحاديثَ مزوّرةٍ حتّى تُثبتَ أنّها على الحقِّ ، وقَدْ قامَ علماءُ السُّنَّةِ بدراسةِ أقسامَ الحديثِ وَنوَّعوهُ إلى أقسامٍ كثيرةٍ جدّاً ، وعلى هذا يَصعبُ الحُكمُ بأنَّ هذا الحديثَ صَحيحٌ ، أو هذا الحديثَ موضوعٌ .
ويُمكنُ الرَدُّ على هذهِ الشّبهةِ منْ عِدَّةِ وُجوهٍ :
1- أنَّ تَدوينَ الحديثِ قدْ بدأَ منذُ العَهدِ الأوّلِ في عَصرِ النّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ، وَشملَ قِسماً كبيراً منَ الحديثِ ، وَما يجدُهُ المطالِعُ لِلكتبِ المؤلَّفةِ في رُواةِ الحَديثِ منْ نُصوصٍ تاريخيَّةٍ مَبثوثةٍ في تَراجِمِ هؤلاءِ الرُّواةِ ، تُثبتُ كتابَتَهم لِلحديثِ بِصورةٍ واسعةٍ جدَّاً ، وتَدلُّ على انتشارِ التَّدوينِ وكَثرتِهِ البالغةِ .
2 – أنَّ تَصنيفَ الحديثِ على الأبوابِ في المصَنّفاتِ والجوامِعِ مَرحلةٌ متطوِّرةٌ مُتقدِّمةٌ جدَّاً في كتابةِ الحديثِ ، وقدْ تمَّ ذلكَ قبلَ سنةَ (200) للهجرةِ بكثيرٍ ، فتَمَّ في أوائلِ القرنِ الثّاني ، بينَ سَنةِ ( 120 ـ 130 هـ )، بِدليلِ الواقعِ الّذي بيَّنَ لنا ذلكَ ، فَهُناكَ جُملةٌ منْ هذهِ الكُتُبِ ماتَ مُصنِّفوها في مُنتصَفِ المائةِ الثّانيةِ ، مِثلَ جامعِ مُعمرَ بنِ راشدٍ (154) ، وَجامعِ سُفيانَ الثّوريّ(161) ، وهشامَ بنِ حسّان (148) ، وابنِ جُرَيج (150) ، وغيرِها كَثيرٌ .
3 – أنَّ عُلماءَ الحديثِ وضعُوا شروطاً لقبولِ الحديثِ ، تكفَلَ نقلَهُ عبرَ الأجيالِ بأمانةٍ وضَبطٍ ، حتَّى يُؤدَّى كمَا سُمِعَ منْ رَسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ، فَهناكَ شروطٌ اشترطُوها في الرّاوي تضْمَنُ فيهِ غايةَ الصّدقِ والعدالةِ والأمانةِ ، معَ الإدراكِ التَّامِ لِتصرّفاتِهِ وتحمُّلِ المسؤوليّةِ ، كَما أنَّها تَضمنُ فيهِ قوَّةَ الحِفظِ والضَّبطِ بِصدرِهِ أو بِكتابِهِ أو بِهما مَعاً ، ممَّا يَمكِّنُهُ منَ استحضارِ الحَديثِ وأدائِهِ كمَا سَمعَهُ ، وَيتَّضحُ ذلكَ منَ الشُّروطِ الّتي اشترَطَها المحدّثونَ للصّحيحِ والحسَنِ ، والّتي تَكفلُ ثِقةَ الرّواةِ ، ثمَّ سلامةَ تَناقلِ الحَديثِ بَينَ حلقاتِ الإسنادِ ، وَسلامَتَهُ منَ القَوادِحِ الظّاهرةِ والخَفيّةِ ، وَدِقّةَ تطبيقِ المحدّثينَ لِهذهِ الشُّروطِ وَالقواعِدِ في الحُكمِ على الحديثِ بِالضَّعفِ لمُجرّدِ فَقدِ دَليلٍ على صِحّتِهِ ، منْ غَيرِ أنْ يَنتظرُوا قيامَ دليلٍ مُضادٍّ لَهُ .
4 – أنَّ عُلَماءَ الحديثِ لمْ يَكتفُوا بهذا ، بلْ وَضعُوا شروطاً في الرِّواية ِالمكتوبةِ لمْ يَتنبهْ لَها أولئكَ المتطفّلونَ ، فقدْ اشْترطَ المحدّثونَ في الرّوايةِ المكتوبةِ شروطَ الحديثِ الصّحيحِ ، ولِذلكَ نَجدُ على مَخطوطاتِ الحديثِ تَسلسلَ سَنَدِ الكِتابِ منْ رَاوٍ إلى آخرَ حتَّى يَبلغَ مؤلّفَهَ ، ونجدُ علَيها إثباتَ السَّماعاتِ ، وخطَّ المؤلّف ِأو الشّيخِ المسمّعِ الّذي يَروي النّسخةَ عنْ نسخةِ المؤلّفِ أو عنْ فَرعِها، فكانَ مَنهجُ المحدّثينَ بِذلكَ أقوى وأحكمَ وأعظمَ حيطةً منْ أيِّ مَنهجٍ في تَمحيصِ الرّواياتِ والمستنداتِ المكتوبةِ .
5 – أنَّ البحثَ عنِ الإسنادِ لمْ يَنتظرْ مِئتي سَنةً كمَا وَقعَ في كلامِ الزّاعمِ ، بلْ فتّشَ الصّحابةُ عنِ الإسنادِ منذُ العَهدِ الأوَّلِ حينَ وَقعَتِ الفِتنةُ سنةَ (35) هجريّة لصيانةِ الحديثِ منَ الدسِّ ، وَضربَ المسلمونَ لِلعالمِ المثَلَ الفريدَ في التّفتيشِ عنِ الأسانيدِ ، حيثُ رَحلُوا إلى شتَّى الآفاقِ بَحثاً عنْها واختباراً لِرُواةِ الحديثِ ، حتّى اعتُبِرَتِ الرّحلةُ شَرطاً أساسيَّاً لِتكوينِ المحدِّثِ .
6 – أنَّ المحدّثينَ لمْ يَغفلُوا عمَّا اقترَفَهُ الوَضّاعونَ وأهلُ البِدَعِ والمذاهبِ السّياسيّةِ منَ الاختلاقِ في الحديثِ ، بلْ بادَرُوا لِمحاربةِ ذلكَ باتّباعِ الوسائلِ العلميّةِ الكافلةِ لِصيانةِ السّنّةِ ، فَوضعُوا القيودَ وَالضَّوابِطَ لِروايةِ المبتدِعِ وَبيانِ أسبابِ الوَضعِ وَعلاماتِ الحديثِ الموضوعِ .
7 – أنَّ هذا التَنوّعَ الكثيرَ لِلحديثِ ليسَ بِسببِ أحوالِهِ منْ حيثِ القبولِ أو الردِّ فَقط ، بلْ إنَّهُ يَتناولُ إضافةً إلى ذلكَ أبحاثَ رواتِهِ وأسانيدَهُ ومتونَهُ ، وهوَ دَليلٌ علَى عُمقِ نَظرِ المحدّثينَ ودِقّةِ بَحثهِمْ ، فإنَّ ممَّا يُستدَلُّ بهِ عَلى دِقَّةِ العِلمِ وإحكامِ أهلِهِ لَهُ تقاسيمُهُ وتَنويعاتُهُ ، بلْ لا يُعدُّ عِلماً ما لَيسَ فيهِ تَقسيمُ أقسامٍ وتَنويعُ أنواعٍ ؟!! .
فَظهرَ بذلكَ تهافتُ هذهِ الشّبهةِ وَبُعدُها عنِ الموضوعيّةِ والمنهجيّةِ .