الشُبهةُ وردُّها بالتَفصيل :
تقولُ الشُّبهةُ:
قالَ اللهُ تَعالى في حَقِّ آدمَ عَلَيهِ السَّلامُ لمَّا أَكَلَ مِنَ الشَّجرةِ: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } [طه: 121، 122]
وقالَ في حَقِّ إبليسَ عندما أَمَرَهُ اللهُ تعالى بالسُّجودِ فَرَفَضَ: { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } [الحجر: 34، 35]
ففي الآياتِ انحيازٌ من قِبَلِ اللهِ تَعالى إلى آدمَ ضدَّ إبليسَ، ولِماذا قَبِلَ اللهُ تَعالى توبةَ آدمَ عَليه السَّلامُ ولَمْ يَقبَلُ تَوبَةَ إبليسَ؟
الردُّ :
لمَّا أَمَرَ اللهُ سُبحانَهُ أنْ تَسجُدَ الملائكةُ ومَعهم إبليسُ لآدمَ عَليه السَّلامُ، أَبى إبليسُ السّجودَ ورفَضَهُ؛ استكبَارَاً وعِنَاداً، قالَ تَعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [البقرة: 34] ومعنى قَولِهِ: (وَاسْتَكْبَرَ) الاستكبارُ: الاستِعْظَامُ، فكأنَّهُ كَرِهَ السُّجودَ في حَقِّهِ واستَعظَمَهُ فِي حقِّ آدمَ، فكانَ تَرْكُ السُّجودِ لآدمَ تَسفِيهاً لأمرِ اللهِ وحِكمَتِهِ.
ولم يَرِدْ أنَّ إبليسَ قد أتى رَبَّهُ مُستغفراً تائِبَاً راجِعَاً إلَيهِ … بلِ ازدادَ تكبُّراً وتَجبُّراً بأنْ طَلَبَ مِنَ الحَقِّ سُبحانَهُ أنْ يُبقيه إلى يَومِ القيامَةِ؛ لِيغويَ البَشريَّةَ ويُبعِدَهم؛ كَما كَانوا سَبباً في إبعادِهِ، قَالَ تَعالى: { قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [الأعراف: 14 – 17]
أمَّا مَا كانَ مِن آدمَ عَلَيهِ السَّلامُ فإنَّ النَّهيَ الوارِدَ فِي قَولِهِ تَعالى: { وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } [البقرة: 35] إنّما هُوَ نَهيُ تَنزيهٍ لَا تَحريمٍ، بِدليلِ أنَّ الأصلَ فِي المَنافِعِ – وهِيَ هنا الأكلُ – الإباحةُ، فإذا ضَمَمْنَا مَدلولَ اللَّفظِ إلى هذا الأصلِ صَارَ المجموعُ دَليلاً على التَّنزيهِ، وهذا هُوَ الأَولى بِهذا المَقامِ؛ لأنَّ عَلى هذا التَّقديرِ يَرجعُ حَاصِلُ مَعصِيَةِ آدَمَ عليهِ السَّلامُ إلى تَركِ الأَولَى؛ ومَعلومٌ أنَّ كُلَّ مَذهَبٍ كَان أَفضى إلى عِصمةِ الأَنبياءِ عَليهمُ السَّلامُ كانَ أَولَى بِالقَبولِ.
ولمَّا كانَ مَا صَدَر من آدمَ عَليه السَّلامُ إنَّما هُوَ خِلافُ الأَولَى، واستغفَرَ رَبَّهُ وتابَ وأنابَ إلَيهِ سُبحانَه، قَبِلَ مِنهُ تَوبَتَهُ فَاجتَبَاهُ وهَدَاهُ.
وكَمَا قِيلَ : فَإِذَا كَانَتْ خَطِيئَةُ الرَّجُلِ فِي كِبْرٍ فَلَا تَرْجُهُ، وَإِنْ كَانَتْ خَطِيئَتُهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَارْجُهُ، وَكَانَتْ خَطِيئَةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعْصِيَةً[1]، وَخَطِيئَةُ إِبْلِيسَ كِبْرًا.
ولمْ يَقصدْ إبليسُ – لَعَنَهُ اللهُ- إخراجَ آدَمَ مِنَ الجَنَّةِ، وإنَّما قَصَدَ إسقَاطَهُ مِن مَرتَبَتِهِ وإِبعادِهِ كَما أُبعِدَ هُوَ، فَلَم يَبلُغْ مَقصَدَهُ وَلا أَدرَكَ مُرادَهُ، بَل ازدادَ سخنةَ عينٍ[2] وغَيظَ نَفسٍ وَخَيبةَ ظَنٍّ.
ولَم يَكنْ إخراجُ اللهِ تَعالى آدمَ مِنَ الجَنَّةِ وإهبَاطُهُ مِنها عُقوبةً لَهُ لأنَّهُ أهبَطَهُ بعدَ أنْ تَابَ علَيه وقَبِلَ تَوبَتَهُ؛ وإنَّما أَهبَطَهُ إمَّا تَأدِيبَاً وإمَّا تَغلِيظَاً لِلمِحْنَةِ. والصَّحيحُ فِي إهباطِهِ وسُكنَاهُ فِي الأرضِ مَا قد ظَهَرَ مِنَ الحِكمَةِ الأَزَلِيَّةِ فِي ذلكَ، وهيَ نشرُ نَسلِهِ فيها لِيُكلِّفَهُم ويَمتَحِنَهُم ويُرَتِّبَ على ذلكَ ثَوابَهم وعِقَابَهم الأخرويَّ؛ إذِ الجنّةُ والنَّارُ ليستا بدارِ تَكليفٍ، فكانَتْ تلكَ الأكلةُ سببَ إهباطِهِ مِنَ الجَنةِ، وللهِ أنْ يَفعلَ مَا يَشاءُ، وقَد قالَ: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30]، وهذهِ منقبةٌ عظيمةٌ وفَضيلةٌ كريمةٌ شريفةٌ.
للاستزادَةِ ينظر: تفسيرُ القرطبيِّ وتفسيرُ مفاتيحِ الغَيبِ للرَّازيِّ: في تفسير قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [البقرة: 34] وما بعدها…
[1] باعتبار أنه فَعَلَ خلاف الأولى، والله أعلم.
[2] سخنة: عكس قرة عين.