شبهات في التفسير

تقول الشبهة :

إنَّ اللهَ لم يأمرِ النَّساءَ بارتداءِ الحجابِ، ولم يذكرْ آيةً صريحةً تدلُّ على فرضيَّتهِ، إنَّما هو عبارةٌ عن عادةٍ جاهليّةٍ كانت عندَ العربِ قبلَ الإسلامِ فقط .

الردُّ :

يقولُ اللهُ تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [الأحزاب: 59]

تُعتبرُ هذهِ الآيةُ صريحةٌ في فرضِ الحجابِ لمن يدّعي بأنّهُ لا يوجدُ دليلٌ على أنَّ اللهَ قد فرضَهُ ..

 وكلُّ من يدّعي غيرَ ذلكَ فهوَ إمّا لقُصورٍ في عقلهِ ومدركاتِهِ العقليَّةِ، وإمّا استكباراً وعِناداً عمّا فرضَ اللهُ تعالى وأمرَ بهِ ..

فالآيةُ بصريحِها تتحدثُ عن أنَّ اللهَ تعالى قد فرضَ الحجابَ، والعربُ بسليقَتِها اللّغويّةِ قد فهمتْ كلامَ ربّها فيما يخصُّ هذهِ الآيةَ ..

فلمّا كانَتْ عادةُ العربيّاتِ التّبذُّلَ في معنى التّحجّبِ، وكنَّ يكشفْنَ وجوههنَّ كما يفعلُ الإماءُ، وكانَ ذلكَ داعياً إلى نَظَرِ الرّجالِ إليهنَّ وتشعّبِ الفكرِ فيهنَّ، أمرَ اللهُ تعالى رسولَهُ ﷺ بأمرهنَّ بإدناءِ الجلابيبِ؛ لِيَقعَ سترهنَّ؛ ويُبيّنَ الفرقَ بينَ الحرائرِ والإماءِ، فيُعرفُ الحرائرُ بسترهنَّ، ورُويَ أنّهُ كانَ في المدينةِ قومٌ يجلسونَ على الصّعداتِ لرؤيةِ النساءِ ومعارضتهنَّ ومراودتهنَّ، فنزلَت الآيةُ بسببِ ذلكَ.

وفي قولهِ تعالى : { يُدنينَ }، معنى الإدناءِ: تقريبُ شيءٍ من شيءٍ، ومن ذلكَ قولهُ تعالى في وصفِ ثمارِ الجنّةِ : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [الحاقة: 23]

أي: قريبةُ التّناولِ سَهْلةُ الجَنْيِ، والمرادُ: يُدنينَ جلابيبهنَّ أي: منَ الأرضِ لتسترَ الجسمَ ..

وقولهُ : { عَلَيْهِنَّ } : يدلُّ على أنّها تشملُ الجسمَ كلَّهُ، وأنّها ملفوفةٌ حولَهُ مسدولةٌ حتّى الأرضِ .

وقولُهُ تعالى : { جلابيبهنَّ } : يجبُ أن يكونَ سابغاً طويلاً قريباً من الأرضِ، وقالوا : الجِلبابُ هو الخمارُ الذي يغطّي الرّأسَ، ويُضربُ على الجيوبِ – أي فتحةِ الرّقبَةِ – لكنَّ هذا غيرُ كافٍ، فلا بُدَّ أنْ يُسدلَ إلى الأرضِ لِيَسترَ المرأةَ كلَّها؛ لأنَّ جسمَ المرأةِ عورةٌ، ومنَ اللّباسِ ما يكشفُ، ومنهُ ما يَصِفُ، ومنهُ ما يلفتُ النّظَرَ .

ويُشتَرطُ في لباسِ المرأةِ الشّرعيِّ ألاَّ يكونَ كاشفاً، ولا واصِفاً، ولا مُلْفِتاً للنَّظَرِ؛ لأنَّ من النّساءِ مَنْ ترتدي الجِلبابَ الطّويلَ السَّابغَ الّذي لا يكشِفُ شيئاً من جِسمها، إلا أنّهُ ضَيِّقٌ يصفُ الصَّدْر، ويَصِفُ الأردافَ، ويُجسِّم المفاتنَ، حتّى تبدو وكأنّها عاريةٌ.

لذلكَ من التّعبيراتِ الأدبيّةِ في هذهِ المسألةِ قَوْلُ أحدهم : إنَّ مبالغةَ المرأةِ في تبرُّجها إلحاحٌ منها في عَرْضِ نَفسِها على الرّجلِ، يعني : تريدُ أنْ تُلفتَ نظرَهُ، تريدُ أنْ تُنبِّهَ الغافلَ وكأنّها تقولُ: نحنُ هنا .

وهناكَ رواياتٌ في كيفيّةِ هذا التّستّرِ :

– قالَ ابنِ عبّاسٍ : ” أمرَ اللهُ نساءَ المؤمنينَ إذا خرجْنَ من بيوتِهِنَّ في حَاجَةٍ أن يُغطّينَ وجوهَهُنَّ مِن فوقِ رؤوسهِنَّ بالجلابيبِ، ويُبدينَ عَيناً واحدةً ” .

– وقالَ محمدُ بنُ سيرينَ فيما رواهُ ابنُ جريرٍ عنه : ” سألْتُ عبيدةَ السّلمانيَّ عن قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } فغطّى وجههُ ورأسَهُ، وأبرَزَ عينَهُ اليُسرى ” .

– وأخرجَ عبدُ الرّزاقِ وابنُ أبي حاتمٍ عن أمِّ سَلَمَةَ قالَتْ : ( لمَّا نزلَتْ هذهِ الآيةُ: { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } خرجَ نساءُ الأنصارِ، كأنَّ على رؤوسهنَّ الغربانَ من السّكينةِ، وعليهنَّ أكسيةٌ سودُ يلبسْنَها ) .

والمقصودُ بالآيةِ الّتي نزلَتْ بعدَ استقرارِ الشّريعةِ أن يكونَ السترُ المأمورُ به زائداً على ما يجبُ من سَترِ العورةِ، وهو أدبٌ حسنٌ يُبعدُ المرأةَ عن مظانّ التّهمةِ والرّيبةِ، ويحميها من أذى الفسَّاقِ ..

واللّباسُ الشّرعيُّ : هو الساترُ جميعَ الجسدِ، الذي لا يشفُّ عمّا تحتَهُ، فإن كانت المرأةُ في بيتِها وأمامَ زوجِهَا فلها أن تلبسَ ما تشاءُ ..

وقولُهُ تعالى: { ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ } أي: على الجملةِ بالفرقِ حتّى لا يختلطْنَ بالإماءِ، فإذا عرفْنَ لم يقابَلْنَ بأذىً من المعارضةِ مراقبةً لرتبةِ الحرّيّةِ، وليسَ المعنى أن تُعرفَ المرأةُ حتّى يُعلَمَ مَن هي ..

 وكانَ عمرُ إذا رأى أَمَةً قد تقنَّعتْ قنَّعها الذرةَ محافظةً على زيِّ الحرائرِ، قائلاً لها: أتتشبّهينَ بالحرائرِ يا لكَاعي؟!

ثم يُبيِّنُ الحقُّ ﷻ الحكمةَ من هذا الأدبِ في مسألةِ اللباسِ، فيقولُ: {ذلك} أي: إدناءُ الجلبابِ إلى الأرضِ، وسَترُ الجسمِ، وعدمُ إبداءِ الزينةِ {أدنى} أي: أقربُ { أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } .

فالمرأةُ المسلمةُ تُعْرَفُ بزيِّها وحِشْمتها، فلا يجرؤُ أحدٌ على التّعرّضِ لها بسوءٍ أو مُضايقَتِها، فلباسُها ووقارُها يقولُ لكَ : إنّها ليسَتْ من هذا النّوعِ الرخيصِ الذي ينتظرُ إشارةً منكَ، وليست ممَّنْ يَعْرضُ نفسَهُ عَرْضاً مُهيِّجاً مُستميلاً مُلْفتاً ..

هذا ما فسّرهُ جُلُّ علماءُ التّفسيرِ من أنَّ هذهِ الآيةَ صريحةٌ في فرضيّةِ الحجابِ، حتّى سُمّيتْ هذه الآيةُ بـ: (آيةِ الحجابِ) لتكونَ دليلاً بيّناً واضحاً على ما فرضَهُ اللهُ تعالى.

ثم يأتي بعدَ ذلكَ أنصافُ العلماءِ وطلابُ الكتبِ دونَ الشّيوخِ ليتقوّلوا على كلامِ اللهِ بغيرِ علمٍ، ليخرجوا لَنا بتفاسيرٍ للقرآنِ ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ، بحجَّةِ التّفسيرِ المواكبِ للعصرِ دونَ الرّجوعِ إلى ما قالَهُ العلماءُ الأفذاذُ . والصوابُ ما فنّدناهُ وأثبتناهُ واللهُ أعلمُ.

الأستاذ مدين عرفة

………………………………..

للاستزادة:

 ينظر تفسير الآية [الأحزاب: 59] من التفاسير التالية :

تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز .

 التفسير المنير للزحيلي .

 تفسير الشعراوي .

 التحرير والتنوير لابن عاشور .

 تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم .

 تفسير القرطبي .