حكمُ أخذِ الأجرةِ على قراءةِ القرآنِ
وخلاصةُ المذاهبِ
في المذاهبِ الأربعةِ
(السؤال): رجلٌ من حَمَلَةِ القرآنِ الكريمِ يقرؤهُ بأجرةٍ وهو في حاجةٍ إلى ذلكَ لمعيشتِهِ فهل يحلُ لهُ أخذُ الأجرةِ على القراءةِ، كما يَحِلُّ أخذُها على تعليمِ القرآن؟
(الجواب) : ذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابُهُ إلى أنّهُ لا يَجُوزُ أخذُ الأجرةِ على فعلِ القُرَبِ والطّاعاتِ كالصّلاةِ والصّومِ، ومنها تعليمُ القرآنِ وقراءتِهِ، ولكنَّ المتأخرينَ من فقهاءِ الحنفيّةِ استثنُوا من ذلكَ أشياءً منها تعليمُ القرآنِ، فأفْتَوا بجوازِ أخذِ الأجرةِ عليهِ استحسانًا خشيةَ ضياعِ القرآنِ إذا لم يُعْطَ المعلِّمونَ أجراً على تعليمِهِ، إذ الغالبُ حينئذٍ أن ينصرفُوا عن القيامِ بهِ.
وبقيَ حكمُ أخذِ الأجرةِ على قراءةِ القرآنِ على ما تَقَرَّرَ في أصلِ المذهبِ من عدمِ الجوازِ لعدمِ تَحَقُّقِ هذهِ الضّرورةِ فيهِ.
قالَ الخيرُ الرملي في حاشيتِهِ على البحرِ في كتابِ الوقفِ : المفتَى بهِ جوازُ الأخذِ استحسانًا (أيّ للضرورةِ) على تعليمِ القرآنِ لا على القراءةِ المُجَرَّدةِ كما في التتارخانيةِ، حيثُ قالَ فيمن أوصى لقارئِ القرآنِ على قبرهِ بكذا : لا معنى لهذهِ الوصيّةِ ولصلةِ القارئِ بقراءتِهِ ؛ لأنَّ هذا بمنزلةِ الأجرةِ. والإجارةُ في ذلكَ باطلةٌ وهي بدعةٌ ولم يفعلها أحدٌ من الخلفاءِ. وقدْ ذكرنا مسألةَ تعليمِ القرآنِ على الاستحسانِ اهـ. وقالَ تاجُ الشّريعةِ: إنَّ القراءةَ بالأجرةِ لا يستحقُ الثّوابَ عليها لا للميتِ ولا للقارئِ. وقالَ العَيْنِي في شرحِ الهدايةِ: ويمنعُ القارئُ للدنيا، والآخذُ والمعطي آثمان اهـ.
وذهبَ أحمدٌ “كما ذكرَهُ ابنُ قدامةٍ” إلى أنَّ مِمَّا لا يجوزُ أخذُ الأجرةِ عليهِ القُرَبَ التي يختصُّ فاعلُها بكونهِ من أهلِ القُربةِ، يعني أنّهُ يشترطُ كونهُ مسلمًا كالإمامةِ والأذانِ والحجِّ وتعليمِ القرآنِ. واستدلَّ على ذلكَ بأحاديثٍ منها حديثُ عبدُ الرّحمنِ بنُ شبلٍ الأنصاريّ، قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم ـ يقولُ: ( اقرؤوا القرآنَ ولا تَغلُوا فيهِ ولا تَجْفُوا عنهُ ولا تأكلُوا بهِ ولا تستكثرُوا به) . [رواهُ أحمدُ في مسندهِ والأثرمُ في سنّنهِ، مُلَخَّصًا من المغني] . وقراءةُ القرآنِ من هذا البابِ كما هو ظاهرٌ فلا يجوزُ أخذُ الأجرةِ عليها ، كما لا يجوزُ على تعليمهِ
والقولُ بعدمِ جوازِ أخذِ الأجرةِ على التعليمِ هو الذي نَصَّ عليهِ أحمدٌ وبهِ قالَ عطاءٌ والضحاكُ والزهري. وعنهُ روايةٌ أخرى حكاها أبو الخطّابِ، أنّهُ يجوزُ أخذ الأجرةِ عليهِ كما أفتى بهِ المتأخرونَ من الحنفيّةِ.
وممن ذهبَ إلى جوازهِ مالكٌ والشّافعي وأبو ثورٍ وابنُ المنذرِ وأبو قلابةٍ كما في المغني وابنُ سيرين والحكمُ بنُ عيينةَ كما في المُحَلَّى لابنِ حزمٍ.
وذهبَ المالكيّةُ إلى أنّهُ لا يجوزُ أخذُ الأجرةِ على ما لا يقبلُ النيابةُ من المطلوباتِ شرعًا كالصّلاةِ والصومِ، بخلافِ ما يَقْبَلُها فيجوزُ أخذُ الأجرةِ عليهِ، ومنهُ تعليمُ القرآنِ وقراءتِهِ، ففي مُخْتَصَرِ خليلٍ وشرحِهِ : “وجازتْ إجارةٌ على تعليمِ القرآنِ كلّهِ أو بعضٍ منهُ مُعَيَّن”
وفي حاشيةِ البناني عليهِ عندَ قولِ خليلٍ : “ولا مُتَعَيَّنٍ كركعتي الفجرِ” أيّ ولا يجوزُ الإجارةُ على أمرٍ مطلوبٍ من كلِّ شخصٍ بعينهِ كركعتي الفجرِ ما نصّهُ ، لكنّ ليسَ مرادُهمْ بذلكَ كلَّ مندوبٍ بل كانَ ما لا يقبلُ النّيابةَ كالصلاةِ والصّومِ ، وأمّا غيرهما من سائرِ المندوباتِ كقراءةِ القرآنِ وسائرِ الأذكارِ فتجوزُ الإجارةُ عليها. قالَ ابنُ فرحون في شرحِ ابنِ الحاجبِ : ” هذا حُكمُ الصّلاةِ والصّومِ الواجبِ في ذلكَ والمندوبِ، وأمَّا قراءةُ القرآنِ فالإجارةُ عليها مَبْنِيّةٌ على وصولِ ثوابِ القراءةِ إلى الميتِ، ثمّ استدلَّ على أنَّ الراجحَ وصولُ ذلكَ إليهِ بكلامِ ابنِ رشدٍ وغيرهِ” اهـ. وقدْ أوضحنا ذلكَ ورَجَّحْنَاهُ في فتوى سابقةٍ بما لا مزيدَ عليهِ.
وذهبَ الشّافعيةُ كما في شرحِ المنهاجِ وحواشيهِ إلى أنَّ الإجارةَ لا تصحُّ لفعلِ عبادةٍ تجبُ فيها النّيّةُ بحيث يتوقفُ أصلُ حصولِها عليها، كالصّلاةِ والإمامةِ وتَصِحُّ لِمَا ليسَ كذلكَ كالأذانِ، والإقامةِ، والخطبةِ، وتعليمِ القرآنِ، وقراءتهُ ويصحُّ الاستئجارُ لقراءةِ القرآنِ في صورٍ:
القراءةُ عندَ القبرِ للانتفاعِ بنزولِ الرّحمةِ حيثُ يُقرأُ القرآنُ ويكونُ الميّتُ كالحيِّ الحاضرِ في الانتفاعِ بهِ سواءً أَعَقَّبَ القراءةَ بالدّعاءِ للميتِ أو جعلَ ثوابَ قراءتِهِ لهُ أو لا فتعودُ منفعةُ القراءةِ للميّتِ في كلِّ ذلكَ.
القراءةُ في غيرِ المقبرةِ مع الدّعاءِ عقبها بحصولِ الثّوابِ للميّتِ؛ لأنَّ الدّعاءَ بعدُها أقربُ إجابةٍ وأكثرُ بركة.
القراءةُ بحضورِ المستأجرِ أو نحوَ ولدهِ.
القراءةُ في غيبةِ المستأجرِ مع ذكرهِ في القلبِ حالةَ القراءةِ ولو في أوّلِها؛ لأنَّ تذكرهِ سببٌ لشمولِ الرّحمةِ لهُ إذا تنزّلتْ على قلبِ القارئِ.
وتصحُّ الإجارةُ لمطلقِ القراءةِ مع نِيّةِ الثّوابِ للميّتِ على ما صَحَّحهُ بعضُ المفتينَ واختارهُ ابنُ السُّبْكي وصاحبُ الرَّوضِ وهي من صالحِ العملِ.
وذهبَ ابنُ حزمٍ كما في المُحَلَّى إلى أنّهُ لا تجوزُ الإجارةُ على كلِّ واجبٍ تَعَيَّنَ على المرءِ من صومٍ أو صلاةٍ أو حجٍّ أو فتيا أو غيرِ ذلكَ؛ لأنَّ الطّاعةَ المفترضةَ لابدَّ من عملِها. فأخذُ الأجرةِ عليها لا وجهَ لهُ فهوَ من أكلِ أموالِ النّاسِ بالباطلِ. وأمّا ما ليسَ كذلكَ فتجوزُ الإجارةُ عليهِ مثلُ أن يحجَّ عنهُ تطوّعًا أو يصلي عنهُ تطوّعًا أو يُؤَذِّنَ عنهُ تطوّعًا أو يصومَ عنهُ تطوّعًا؛ لأنَّ كلَّ ذلكَ ليسَ واجبًا على أحدهِما ولا عليهما، فالعاملُ يعملهُ عن غيرهِ لا عن نفسهِ فلم يُطِعْ ولم يَعْصِ. والمستأجرُ أنفقَ مالهُ في ذلكَ تطوّعًا للهِ تعالى فلهُ أجرُ ما اكتسبَ بمالهِ ومن ذلكَ تعليمُ القرآنِ وقراءتهُ فتجوزُ الإجارةُ عليهما اهـ. ملخصًا [من ص 191وما بعدها جـ:8].
وخلاصةُ المذاهبِ :
وَرَدَتْ في هذا البابِ أحاديثٌ بعضُها يدلُّ على الجوازِ وبعضُها يدلُّ على المنعِ، وكانَ ذلكَ مثارَ الخلافِ بين الفقهاءِ في الحكمِ.
فذهبَ الجمهورُ إلى الجوازِ واستدلُّوا كما في نَيْلِ الأوطارِ والمحلى وغيرهِما من المعتبراتِ.
فتاوى حسنين مخلوف (ص: 120)