تقليدُ الأئمةِ مخالفٌ لما أرشدوهم إليه؛ حيثُ نَهوا عن تقليدِهم، وخاصّةً إذا خالفَ رأيهم الحديث الصحيح، وقد وردَ عن كلِّ واحدٍ من الأئمةِ الأربعةِ أنّه قال: (إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي).
وإليك نصوص العلماء في رد الشبهة :(إذا صح الحديث فهو مذهبي):
الجوابُ: دعوى أنَّ الأئمةَ المجتهدين قد نهَوا عن تقليدِهم مُطلقاً هي دعوى باطلة؛ فإنّه لم يُنقل عن أحدٍ منهم ذلك، ولو ثَبتَ عنهم فتَرْكُ التقليدِ لقولِهم هو عينُ التقليدِ، وهو منهيٌّ عنه عندَكم، فكيفَ يجبُ تركُ التقليدِ بتقليدِ قولِهم؟ فالأمرُ بتقليدِهم في أمرِهم بتركِ التقليدِ إيجابٌ للنقيضينِ، وهو باطلٌ.
ولو سَلِمَ ثبوتُ النقلِ عن الأئمةِ بالنهيِّ عن تقليدِهم فالمرادُ تحريمُ التقليدِ على مَن كانَ أهلاً للاجتهادِ).
وقد أجابَ الإمامُ النووي في مقدمةِ المجموعِ عن دعوى تحريضِ الأئمةِ مخالفةِ مذاهبِهم إذا خالفَ الحديثُ رأيَهم بقولِه: “وكان جماعةٌ من متقدَمي أصحابِنا إذا رأوا مسألةً فيها حديثٌ ومذهبُ الشافعيّ خلافُه عملوا بالحديثِ، وأفتوا به قائلين: مذهبُ الشافعيِّ ما وافقَ الحديثَ، ولم يتّفق ذلك إلا نادر ومنه ما نُقلَ عن الشافعيّ فيه قولٌ على وفق الحديث، وهذا الذي قاله الشافعيُّ ليس معناهُ أنَّ كلَّ واحدٍ رأى حديثاً صحيحاً قال: هذا مذهبُ الشافعيِّ، وعَملَ بظاهرِه وإنّما هذا فيمن له رتبةُ الاجتهاد في المذهبِ على ما تقدّمَ من صفتِه أو قريبٍ منه وشرطُه أن يغلبَ على ظنّهِ أنّ الشافعيَّ -رحمه الله- لم يقف على هذا الحديثِ أو لم يعلم صحتَه وهذا إنّما يكونُ بعدَ مطالعةِ كتبِ الشافعيِّ كلّها ونحوها من كتبِ أصحابِه الآخذينَ عنه وما أشبهها، وهذا شرطٌ صعبٌ قَلَّ مَن يتّصفُ به وإنّما اشترطُوا ما ذكرنا؛ لأنّ الشافعيَّ-رحمه الله- تركَ العملَ بظاهرِ أحاديثٍ كثيرةٍ رآها وعَلِمَها لكن قامَ الدليلُ عندَه على طعنٍ فيها أو نسخِها أو تخصيصِها أو تأويلِها أو نحوِ ذلك.
قالَ الشيخُ أبو عمرو –يعني: ابن الصلاح- رحمه الله: ليس العملُ بظاهرِ ما قالَه الشافعيُّ بالهيّنِ، فليس كلُّ فقيهٍ يُسوّغُ له أن يستقلَّ بالعملِ بما يراهُ حجّةً من الحديثِ، وفيمن سلكَ هذا المسلكَ من الشافعيين مَن عملَ بحديثٍ تركَهُ الشافعيُّ -رحمه الله- عمداً، مع علمِه بصحتِه لمانعٍ اطّلعَ عليه وخَفِيَ على غيرِه، كأبي الوليدِ موسى بن أبي الجارود ممّن صحبَ الشافعيّ، قالَ: صحَّ حديثُ: (أَفطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحجُومُ)
فأقول: قال الشافعيُّ: أفطرَ الحاجمُ والمحجومُ، فرُدَّ ذلك على أبي الوليد; لأنَّ الشافعيَّ تَركَهُ مع عِلمِه بصحتِه؛ لكونِه منسوخاً عندَه، وبيَّن الشافعيُّ نَسخَهُ واستدلَّ عليه وستراهُ في (كتاب الصيام) إن شاءَ اللهُ تعالى، وقد قدّمنا عن ابنِ خزيمة أنّه قال: لا أعلمُ سنّةً لرسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم في الحلالِ والحرامِ لم يُودِعها الشافعيُّ كتبَهُ. وجلالة ابن خزيمة وإمامته في الحديث والفقه، ومعرفته بنصوص الشافعي بالمحل المعروف.
قال الشيخ أبو عمرو: فمَن وجدَ من الشافعيّةِ حديثاً يُخالفُ مذهبَه نظرَ إن كملَت آلاتُ الاجتهادِ فيهِ مُطلقاً، أو في ذلك البابِ أو المسألةِ كان له الاستقلالُ بالعملِ به، وإن لم يُكمل وشقَّ عليه مخالفةَ الحديثِ بعد أن بحثَ فلم يجد لمخالفتِه عنه جواباً شافياً فله العملُ به إن كانَ عملَ بهِ إمامٌ مستقلٌّ غيرُ الشافعيِّ، ويكونُ هذا عذراً له في تركِ مذهبِ إمامِه هنا، وهذا الذي قالَه حسن متعين، والله أعلم” اهـ (مقدمة المجموع، للإمام محيي الدين النووي، المطبعة المنيرية.).
أسباب الاختلاف للشيخ محمد عوامة
فإن قيل: فما مرادُ الأئمِة من تقرير هذه الكلمة وما شابهها في نفوس أصحابهم فمن بعدهم؟؟
فالجواب: ما قاله العلامةُ المحقق الأصولي مولانا الشيخُ حبيب أحمد الكيرانَوي في المقدمة الثانية لـ”إعلاء السنن” التي طبعت قديماً باسم “إنهاء السكَن” وأُعيد طبعها حديثاً باسم “فوائد في علوم الفقه” قال رحمه الله: “حقيقة هذه الأقوال: هو إظهار الحقيقة الواقعة بأن الحجة هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قولي، فلا تظنوا قولي حجةً مستقلة، وأنا أبرأُ إلى الله مما قلتُه خلافَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الحقيقة لا تستلزم ما نَسب هذا القائل إليه رحمه الله ـ أي إلى الشافعي ـ من تجويزِ نسبةِ كلِّ قولٍ صح الحديث به عند كل قائل: إليه، فاعرفْ ذلك ولا تغترَّ بأمثال هذه الكلمات..” إلى آخر كلامه الدقيق المتين.
وهنا تثورُ ثائرة أدعياء الدعوة إلى العمل بالسنة فيقولون: هل يجوز لكم أن تحكموا بالضلال على من يعمل بالسنة ويفتي الناس بها؟! فنقول: نعم إذا لم يكن أهلاً لهذا المقام، فحُكْمنا عليه بالضلال لا لعمله بالسنة، معاذ الله، بل لتجرُّئه على ما ليس أهلاً له وقد سَبَقَنا إلى هذا الحكم إمام من أئمة العلم بالحديث والفقه، هو الإمام أبو محمد عبد الله بن وهب المصري أحدُ أجلاء تلامذةِ الإمامِ مالك في المدينة المنورة، والإمامِ الليث بن سعد في مصر، قال رحمه الله: “الحديث مَضِلَّة إلا للعلماء وقال الإمام ابن أبي زيد القَيْرواني رحمه الله: “قال ابن عيينة: “الحديث مَضِلَّة إلا للفقهاء” يريد: أن غيرهم قد يحمِل شيئاً على ظاهره وله تأويلٌ من حديثٍ غيره، أو دليلٌ يخفى عليه، أو متروكٌ أوجَبَ تَركَه غيرُ شيء، مما لا يقوم به إلا من استبحر وتفقَّه”