شبهات وردود: لاتحرجيني أمام الله
2021-09-162. شبهات التفسير: لماذا نحتاج إلى التفسير
2021-09-18
بسم الله الرحمن الرّحيم
إذا كانَ القُرآنُ قَدْ نَزَلَ بِاللُّغَةِ العرَبيَّةِ الفَصيحةِ وَالوَاضِحَةِ، وَالقرآنُ ذَاتُهُ يُصَرِّحُ في كثيرٍ مِنَ المَوَاضِعِ بِذلكَ، مِنْها قَولُهُ تَعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه: 113]
فِلماذا نَحتاجُ إلى التَّفسيرِ؟
الجوابُ:
عندَما نَزَلَ القرآنُ الكَريمُ، كانَ وقتُ نُزولِهِ في عَصرِ اللُّغةِ العرَبيَّةِ وَأوْجِ ازدِهارِها، فَكانَ العَرَبُ يَفهَمونَ ما يَتَنزَّلُ عَلَيهم مِنْ آياتٍ وَيَعُونَ ذلكَ، وَلَيسَ أدَلُّ على ذلكَ مِنْ قِصَّةِ إسلامِ سَيّدِنا عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ عِندَما سَمِعَ أوائِلَ سورةِ ( طه ) فَلَو لَمْ يَكنْ قَدْ فَهِمَ وَوعَى ما سَمِعَ ما كانَ ذلكَ سَببَ إسلامِهِ.
وَمِنْ ذلكَ قِصّةُ الوَليدِ بنِ المُغيرةِ، عندَما سَمِعَ أوائلَ سورةِ غافرٍ مِنْ رَسولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ في القُرآنِ قَولَهُ المَشهورَ: (إنَّ لَهُ لَحلاوة، وإنَّ علَيهِ لَطلاوَة، وَإنَّ أعْلاهُ لَمُثمِرٌ، وَإنَّ أسفَلَهُ لَمُغدِقٌ ، وَإنَّهُ يَعلو وَلا يُعلَى علَيهِ) فَقَدْ أبدَعَ الوَليدُ – عَلَى كُفرِهِ – في وَصفِ القرآنِ وبَلاغَتِهِ؛ لِشِدَّةِ مَعرِفَتِهِ بِفنونِ اللُّغةِ وَأساليبِها؛ فَدَلَّ ذلكَ على أنَّهم كانُوا يَفهَمونَ القرآنَ النّازِلَ بِلُغَتِهمْ المُستَخدِمَ لِأساليبِهِمْ.
ومعَ أنَّهُمْ أقحاحُ اللُّغةِ إلَّا أنَّهُمْ كانَتْ تَخْفى علَيهِمْ بَعضُ المَعاني، ومِنْ ذَلكَ ما رُوِيَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ قالَ: كُنْتُ لا أدري مَا فاطِرُ السَّماواتِ وَالأرضِ، حتّى أتاني أعْرابيَّانِ يَختَصِمانِ في بِئرٍ، فَقالَ أحدُهُمَا: أنا فَطَرْتُها (أي: حَفَرْتُها أو ابتدَأْتُها) فَعَلِمَ سَيّدُنا ابنُ عبَّاسٍ مِنْ هذهِ الحادِثةِ مَعنى كَلمةِ فاطرٍ، وهوَ خالقٌ أو مِبدعٌ، ولمْ يَكنْ قدْ عَلِمَها مِنْ قَبلُ، وَسُئِلَ أبو بَكرٍ الصَّدّيقُ، رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنْ قَولِهِ تَعالى: {وفاكِهَةً وَأبَّاً} فَقالَ: أيُّ سَماءٍ تُظِلُّني، وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إنْ قُلْتُ في كِتابِ اللهِ ما لا أعْلَمُ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ رَسولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: (أعْرِبُوا القرْآنَ) وَلا يَكونُ إعرابُهُ إلَّا بِتَعَلّمِ اللّغَةِ العَرَبيَّةِ نَحوِها وَصرْفِها وبَلاغَتِها.
وَوَرَدَ أنَّ عَمَرَ بنَ الخَطَّابِ وَجَّهَ كِتاباً إلى أبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ، وكانَ عامِلَهُ في البَصرَةِ قالَ فيهِ: أمَّا بَعدُ… فَتَفقَّهُوا في السُّنَةِ وَتَفَقَّهُوا في العَرَبيّةِ، وأعرِبُوا القُرآنَ فَإنَّهُ عَرَبيٌّ.
وَرُوِيَ أنَّ أعرابيَّاً سَمعَ قارِئَاً يَقرَأُ: أنَّ اللهَ بريءٌ مِنَ المُشركينَ وَرَسولُهُ بِجرِّ رَسولِهِ، فَتَوَهَّمَ عَطْفَهُ عَلى المشركينَ، فَقالَ الأعرابيُّ: أَوَ بريءٌ اللهُ مِنْ رَسولِهِ؟ فَبَلَغَ ذلكَ سَيّدَنا عُمَرَ بنَ الخَطّابِ، فَأمَرَ ألَّا يُقرِئَ القُرآنَ مَنْ لا يُحسِنُ العَرَبيّةَ.
فإذا كانَ هذا حالُ عَصرِ أهلِ اللُّغَةِ العَرَبيّةِ وأقْحاحِها من احتياجِهِمْ إلى التّفسيرِ وَلَو يَسيراً – وَلَو لَمْ يَكُنْ كَتَفسيرِ اليَومِ – فَلَنَحنُ في عَصرِنا اليومَ لَفي أمسِّ الحاجَةِ إليهِ، لِمَا طَرَأَ علَى النَّاسِ مِنَ البُعدِ الكَبيرِ عَنْ لُغَتِهِمْ ،حتَّى كادَ الواحِدُ مِنْهُمْ لا يَفهَمُ ما يُقالُ بِاللُّغةِ الفُصْحى مِنْ شَخصٍ مِثلِهِ، فَكَيفَ يَفهمُ كَلامَ ربِّ الأرْبابِ؟!
والقرآنُ مَليءٌ بِالكلماتِ الّتي يَحتاجُ النَّاسُ إلى مَعرِفَةِ مَعناهَا وَتَفسيرِها، وفي بَعضِ الأحيانِ يَكونُ مَعناهَا غَيرَ المُتبادِرِ إلى الذِّهنِ مِثلُ: سَيّارة مِنْ قَولِهِ تَعَالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19]، قِطْمير مِنْ قَولِهِ تَعَالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13]، التّراث مِنْ قَولِهِ تَعَالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} [الفجر: 19]، الخَير مِنْ قَولِهِ تَعَالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] فَإذا أخَذْنَا مَثَلاً مَعنى الخَيرِ في هذهِ الآيةِ فَهوَ المالُ، ولَيسَ كَما يَتَبادَرُ إلى الذِّهنِ مِنْ أنَّهُ ضِدُّ الشّرِ، وَالآيةُ في مَوضعِ ذَمٍّ ولَيسَتْ في مَوضعِ مَدحٍ كَمَا يُتَصوَّرُ.
مِمَّا سَبَقَ يَتبيَّنُ لَنا أهميّةُ التَّفسيرِ البالِغَةُ في مَعرِفَةِ البيانِ المُرادِ مِنْ كلامِ رَبِّ الأرْبابِ، لا سيَّما في العَصرِ الحاضِرِ الّذي ابتعَدَ النَّاسُ فيهِ كُلَّ البُعدِ عَنْ لُغَتِهِمُ العَرَبيّةِ، ولا يُسمَعُ لِكلامِ مَنْ يَقولُ لا نَحتاجُ إلى التَّفسيرِ؛ لمَّا قَدَّمْنا وَفَنّدْنا مِنَ الأدَلّةِ.