حكمُ الإيقاظِ لصلاةِ الفجِر بذكرِ اللهِ : ( التذكيُر قبلَ أذانِ الفجرِ )
(السؤالُ) : اعتادَ بَعْضُ المسلمينَ في جِهَتِنا أنْ يُوقظَ الناسَ لصلاة ِالفجرِ بقولِهِ بِصَوتٍ عالٍ في الحيّ: (لا إلهَ إلا الله الملك الحق المبين، محمد رسول الله الصادق الوعد الأمين) وقد ينشد:
يَا نَائِمًا مُسْتَغْرِقًا فِي المَنَامِ … … قُمْ وَاذْكُرِ الحَيَّ الذِي لَا يَنَامُ
مَوْلاَكَ يَدْعُوكَ إِلَى ذِكْرِهِ … … … وَأَنْتَ مُسْتَغْرِقٌ فِي المَنَامِ
وقدْ أَلِفَ الناسُ منه ذلكَ وحَمِدوا له تذكيَرهم بأمرِ اللهِ، فما حكمُ ذلك؟
(الجوابُ) : اعلمْ أنَّ إيقاظَ النائمينَ وتَنْشِيطَ الوَانِين للاستعدادِ لصلاة ِالفجرِ في أوّلِ وقتِها أمرٌ مشروعٌ يَشْهَد له ما في صحيحِ البُخاريّ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ عنِ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّه قالَ : ( لا يمنعن أحدًا منكم أذانُ بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل لِيَرْجِع قائِمُكُم ولِيَنْتَبِه نائِمُكُ) أي لِيَعُودَ القائمُ منكم ليلًا للتهجدِ إلى شيءٍ من الراحةِ لينهضَ لصلاة ِالفجرِ نشيطًا، وليُوقِظَ النائمَ ليستعدَّ للصلاةِ في أولِ الوقتِ بالوضوءِ أو الاغتسالِ.
وعن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها عنِ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّه قالَ: ( إنَ بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) . وزاد في رواية : ( فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر ) .
قال القاسمُ بنُ محمد : ” لم يكنْ بينَ أذانَيهما إلا أنْ يرقَى هذا وينزلَ هذا ” اهـ.
فكان بلالٌ يؤذّنُ قبلَ الفجرِ لِمَا ذُكِرَ، وعبدُ الله ِبنُ أمِّ مكتومٍ يؤذّنُ عندَ طُلوعِه للإعلامِ بدخولِ الوقتِ. وقدْ تَرْجَمَ لهما البخاريُّ في صحيحِه .
وقال الحافظُ :إنَه أرادَ بذلكَ أنْ يبينَ أنَّ المعنى الذي كانَ يؤذّنُ لأجلِه قبلَ الفَجْرِ غيرَ المَعْنى الذي كان يُؤَذن له بعدَ الفجرِ، وأنَّ الأذانَ قبلَهُ لا يكفي عن الأذانِ بعدَه اهـ.
وقد أَقَرَّ الرسولُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك كما دَلَّ عليه الحديثان فكانَ أصلًا لمشروعيةِ ما يقومُ بهِ كثيٌر من المؤذنين في غَسَقِ الليلِ قبيلَ الفجرِ من التسبيحِ والتهليلِ والابتهالِ إلى اللهِ ـ تعالى ـ إلى أنْ يَطْلُعَ الفجرُ قصدًا إلى المعنى الذي كانَ من أجلِه يؤذّنُ بلالٌ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ فهو نداءٌ وتذكيرٌ وإن اختلفَ عن الأذانِ الأولِ في صيغتِه إذْ كانَ الأولُ بألفاظِ الأذانِ المعروفةِ كما يُفِيدُه ظاهرُ الحديثِ وهذا بالتهليلِ والتسبيحِ والابتهالاتِ.
وكذلكَ يَشْهَدُ لمشروعيّة ِما يَفْعَلُه بعضُ المسلمين َاليومَ من إيقاظِ النائمينَ للتأهّبِ لصلاة ِالفجرِ بذكرِ اللهِ تعالى والثناءِ على رسولِهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعِظَةِ الغافلين بما يَسْتَحِثُ هِممَهم ويَسْتنْهِضُ عزائمَهم للمسارعةِ إلى الصلاةِ، وكلٌ ذلك عبادةٌ وطاعةٌ . فإذا كانَ قبلَ طلوعِ الفجرِ فهو في معنى أذانِ بلالٍ، وإذا كان بعدَ طلوعِه فهو في معنى أذانِ ابنِ أمِّ مكتومٍ، والغالبُ الأوّلُ .
وإذا عُلِمَ أنّ تَكْرَار الأذانِ العامِ بعَدَ طلوعِ الفجرِ غيرُ مشروعٍ ، وأنَ أكثَر الناسِ في هذا الوقتِ وقبلِه ما بَيْنَ نائمٍ يَغِطُّ في نومِه ووَسْنَانٍ كسلانٍ ، والنومُ لذيذٌ والدَّعَةُ محبوبةٌ ، ولذا زِيدَ في أذانِ الفجرِ جملة : ” الصلاةُ خيٌر من النومِ ” وإذا تُرِكُوا وشأنَهم حُرِمُوا فضيلة َالصلاةِ في أولِ وقتِها ، بل حُرِمُوا أداءَها في وقتهِا عُلم موقعُ هذا النداءِ من الحسنِ والفائدةِ ، فهو إيقاظٌ وتنبيهٌ وهو من التعاونِ على البرِّ والتَقوى ومن الذكرى التي تَنفعُ المؤمنين .
وكم حُرِمَ أناسٌ إدراك َفضيلةِ أولِ وقتِ الفجرِ ، بل صلاةُ الفجرِ في وقتِها بسببِ غَفلَتِهم أو استسلامِهم للدَّعَةِ والكَسَلِ ؛ ولذلك كان هذا النداءُ خيرًا وبرًّا وعملًا مشروعًا مشكورًا . ولا يدفعُه ما ذكرَهُ صاحبُ المدخلِ فإنّه في زمانٍ غيرِ زمانِنا ، والناسُ اليومَ في أشدِّ الحاجةِ إلى الإيقاظِ والعِظَةِ وتكرارِ التّذكيرِ ، وفي المنعِ منهُ حِرمانٌ من خيرٍ كثيرٍ وثوابٍ جزيلٍ .
وقدْ شهدْنا أثرَ هذا النداءِ في الأحياء ِالتي يُنادى فيها، فكثيرٌ من أهلِها رجالًا ونساءً يلبُونَه سِراعًا ويَنهضُون للصلاةِ فيفوزون بفضلِ صلاةِ الفجرِ في أوّلِ وقتِها ، قال تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } . وفي الحديث : ( من صلّى البَرْدَيْن دخلَ الجنةَ ) ، والبَرْدَان مثنى بَرْد بفتح الباء وسكون الراء وهما الغَدَاة والعَشِي يَعْني صلاة َالفجرِ والعصرِ، وسُمِّيَتَا بَرْدَين ؛ لأنهما تُصَلَّيَان في بَرْدَي النهارِ وهما طرفَاه حينَ يطيبُ الهواءُ وتذهبُ سَوْرَةُ الحرِّ، والمرادُ الصلاةٌ في أولِ وقتِها .
وقد رأيتُ في سنة 1935م بالمدينة ِالمنوّرةِ ـ على صاحبِها أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ ـ رجلَ الشرطةِ يَمُرُّ بالحوانيت في السوقِ ، وأهلَه عادةً مشغولون بالبيع ِوالشراءِ ، وقدْ لا يسمعون الأذانَ للصَّخَبِ في الأسواقِ فينادي بأعلى صوتِه ( الصلاةَ الصلاةَ ) فيسارعون إلى تركِ مَتاجِرهم والذَّهابِ إلى الحرمِ الشريفِ لإدراكِ صلاةِ الجماعةِ، فما أحسنَ ذلكَ وأجملَهُ وفّقَنا الله ُـ تعالى ـ جميعًا إلى ما فيهِ الخيِر والفلاحِ. واللهُ أعلمَ.
فتاوى الشيخ حسنين مخلوف