حكم المِزاح
المزاح من أصله مذموم، إلا قَدْراً يسيرًا يُحَقِّق الألفة ويُوَثِّق المحبة ولا يخرج عن حدود الوَقار.
والسبب في ذلك :
1ـ أن فيه كثرة الضحك واستمراء اللعب وسُقوط الهيبة وما إلى ذلك مما هو معروف، قال عمر ـ رضي الله عنه: ” مَن كثُر ضَحِكُه قلَّتْ هيبتُه، ومَن مزح استُخِفَّ به، ومَن أكثر من شيء عُرِف به، ومَن كثُر كلامه كثر سقَطُه، ومَن كثر سقطه قلَّ حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قلَّ ورَعه، ومن قل ورعه مات قلبُه ” .
وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومًا لأصحابه: ( لو تعلمون ما أعلمُ لَضَحِكْتُم قليلًا ولَبَكَيْتُم كثيرًا ) . فبكى الصحابة وسُمِع لهم صوت واضح بالبكاء،
وقال ابن عباس: ” مَن أذنب ذنباً وهو يضحك دخل النار وهو يبكي ” .
2ـ أن فيه سقوط الهيبة.. قال سعيد بن العاص لابنه: ” يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيَجترئ عليك ” .
وقال عمر بن عبد العزيز، رحمه الله: ” اتقوا الله وإياكم والمزاح؛ فإنه يُورث الضغينة، ويجرّ إلى القبيح، تحدَّثوا بالقرآن وَتَجالسوا به، فإن ثقُل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال ” .
3ـ أنه سبيل إلى العداوة والنزاع، قيل: ” لكل شيء بذور، وبذور العداوة المزاح ” .
أمَّا ما يجوز منه : فهو ما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الأخيار، كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَمزَح ولا يقول إلا حقًّا، وقال الصحابة: يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنك تُداعبنا قال: ( إني وإن داعبْتُكم فلا أقول إلا حقًّا ) . [رواه الترمذي وحسَّنه].
وقد وردت أحاديث تُوضِّح صوَر المزاح الذي كان يصدُر من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك: جاءت امرأة فقالت: يا رسول الله: احملني على بعير، فقال: ( نحملك على ابن البعير )، فقالت: ما أصنَعُ به؟ إنه لا يحملني فتبسَّم رسول الله، وقال: ( ما من بعير إلا وهو ابن بعير ) .
وكان لأبي طلحة ابنٌ يُقال له أبو عمير، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأتيهم، ويقول: ( يا أبا عمير ما فعل النغير). أي العصفور الذي كان يلعب به.
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصهيب وبه رمد: ( أتأكل التمر وأنت رَمِد ). فقال: إنما آكُل على الشق الآخر فتبسَّم النبي، صلى الله عليه وسلم.
هذا هو المزاح الذي لا يخرج عن الحق، ولا يُؤَدِّي إلى كثرة الضحك أو تحقير الغير أو ما إلى ذلك.
فتاوى الشيخ عبد الحليم محمود (ص: 1174)
قال في الموسوعة الفقهية الكويتية:
(اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ – كَمَا قَال الزُّبَيْدِيُّ – فِي حُكْمِ الْمُدَاعَبَةِ وَالْمِزَاحِ
فَاسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَ الْمِزَاحِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَلِيل مَكَانَتِهِ وَعَظِيمِ مَرْتَبَتِهِ ، فَكَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ حِكْمَتِهِ بِقَوْلِهِمْ : إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُول اللَّهِ ، قَال :” إِنِّي لاَ أَقُول إِلاَّ حَقًّا “رواه الترمذي .
وَقَال بَعْضُهُمْ : هَل الْمُدَاعَبَةُ مِنْ خَوَاصِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يَتَأَسَّوْنَ بِهِ فِيهَا ؟ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ خَوَاصِّهِ .
وَالْمُدَاعَبَةُ لاَ تُنَافِي الْكَمَال ، بَل هِيَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَمُتَمِّمَاتِهِ إِذَا كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى الْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ ، بِأَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ الصِّدْقِ ، وَبِقَصْدِ تَآلُفِ قُلُوبِ الضُّعَفَاءِ وَجَبْرِهِمْ وَإِدْخَال السُّرُورِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لاَ تُمَارِ أَخَاكَ وَلاَ تُمَازِحْهُ ) [رواه الترمذي] إِنَّمَا هُوَ الإْفْرَاطُ فِيهَا وَالدَّوَامُ عَلَيْهَا ، لأِنَّهُ يُورِثُ آفَاتٍ كَثِيرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْغَفْلَةِ وَالإْيذَاءِ وَالْحِقْدِ وَإِسْقَاطِ الْمَهَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَمِزَاحُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَالِمٌ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الأْمُورِ ، يَقَعُ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ النُّدْرَةِ لِمَصْلَحَةٍ تَامَّةٍ مِنْ مُؤَانَسَةِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، فَهُوَ بِهَذَا الْقَصْدِ سُنَّةٌ ، إِذِ الأْصْل مِنْ أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبُ التَّأَسِّي بِهِ فِيهَا أَوْ نَدْبُهُ ، إِلاَّ لِدَلِيلٍ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلاَ دَلِيل هُنَا يَمْنَعُ مِنْهُ ، فَتَعَيَّنَ النَّدْبُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ وَالأْصُولِيِّينَ ).اهـ
قال في موضع آخر: ( لاَ بَأْسَ بِالْمُزَاحِ إِذَا رَاعَى الْمَازِحُ فِيهِ الْحَقَّ وَتَحَرَّى الصِّدْقَ فِيمَا يَقُولُهُ فِي مُزَاحِهِ ، وَتَحَاشَى عَنْ فُحْشِ الْقَوْل ،قَال الْبَرَكَوِيُّ وَالْخَادِمِيُّ : شَرْطُ جِوَازِ الْمُزَاحِ قَوْلاً أَوْ فِعْلاً أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ كَذِبٌ وَلاَ رَوْعُ مُسْلِمٍ وَإِلاَّ فَيَحْرُمُ
وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْخَوْضَ فِي الْمُزَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ ذَمِيمِ الْعَاقِبَةِ ، وَمِنَ التَّوَصُّل إِلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ وَاسْتِجْلاَبِ الضَّغَائِنِ وَإِفْسَادِ الإْخَاءِ ، وَقَالُوا : لِكُل شَيْءٍ بَدْءٌ ، وَبَدْءُ الْعَدَاوَةِ الْمُزَاحُ ، وَكَانَ يُقَال : لَوْ كَانَ الْمُزَاحُ فَحْلاً مَا لَقَّحَ إِلاَّ الشَّرَّ ، وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ : لاَ تُمَازِحِ الشَّرِيفَ فَيَحْقِدَ ، وَلاَ الدَّنِيءَ فَيَجْتَرِئَ عَلَيْكَ ) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ : ” اعْلَمْ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الإْفْرَاطُ فِي الْمُزَاحِ أَوِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ ، أَمَّا الْمُدَاوَمَةُ فَلأِنَّهُ اشْتِغَالٌ بِاللَّعِبِ وَالْهَزْل فِيهِ ، وَاللَّعِبُ مُبَاحٌ وَلَكِنَّ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ مَذْمُومَةٌ ، وَأَمَّا الإْفْرَاطُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُورِثُ كَثْرَةَ الضَّحِكِ ، وَكَثْرَةُ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ ، وَتُورِثُ الضَّغِينَةَ فِي بَعْضِ الأْحْوَال ، وَتُسْقِطُ الْمَهَابَةَ وَالْوَقَارَ ، فَمَا يَخْلُو عَنْ هَذِهِ الأْمُورِ فَلاَ يُذَمُّ ” [إحياء علوم الدين للغزالي] .