حكم كتابة اسم الميت على القبر من أجل العلامة
الأصلُ في هذهِ المسألةِ ما روى التِّرمذي وصححهُ عن جابرِ: « نهى النبيُّ ﷺ عن تجَصُصِ القبورِ وأنْ يُكتبَ عليها وأنْ يُبنى عليها وأنْ تُوطَأَ»، وأخرجَه مسلم وليسَ فيهِ «وأنْ يكتبَ عليها»، لكونِها غيرَ صحيحةٍ عندَهُ على شرطِه، ولاختلافِ الرّواةِ على هذهِ العبارةِ كما ذكرَ الدَّارُقطني؛ فبعضُهم ذكرَها وبعضُهم لم يذكرْها، فقدْ يكونُ السندُ صحيحًا والمتنُ شاذًّا، كما هو معلومٌ عندَ المحققين من أهلِ الحديثِ.
قالَ ابنُ العربيِّ تعليقاً على هذا الحديثِ: ” وَأَمَّا الْكِتَابَةُ عَلَيْهَا فَأَمْرٌ قَدْ عَمَّ الْأَرْضَ، وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ قَدْ وَرَدَ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، تَسَامَحَ النَّاسُ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ إلَّا التَّعْلِيمُ لِلْقَبْرِ لِئَلَّا يَدَّثِرَ ” [عارضة الأحوَذي شرح الترمذي]
وقال الإمامُ الحاكمُ في المُسْتَدْرَكِ بعدَ أنْ ذكرَ أحاديثَ النهيِّ عن الكتابةِ على القبورِ: ” هذهِ الأسانيدُ صحيحةٌ و ليس العملُ عليها؛ فإنَّ أئمةَ المسلمينِ من الشرقِ إلى الغربِ مكتوبٌ على قبورِهم، وهو عملٌ أخذَ به الخلَفُ عنِ السلف “.
وعلى كلِّ حالٍ لو سلَّمْنا بصحَّةِ الحديثِ، فهو محمولٌ على الكراهةِ، فإنَّ أكثرَ أسبابِ الكتابةِ على القبرِ هو تعليمُه حتى تَتُمَّ زيارتَه، وهذا مقصدٌ مشروعٌ، ودليلُه العامُّ الترغيبُ في زيارةِ القبورِ، خاصةً الأقارب فتزولُ الكراهةُ.
ولهذا اختلفَ العلماءُ في ذلكَ إلى قولين : الكراهةُ وهو المشهورُ عندَ المالكيةِ والشافعيةِ والحنابلةِ، ثمَّ الجوازُ وهو مذهبُ الحنفيةِ وبه قالَ الإمامُ ابنُ العربيِّ، والحطابُ، والدُّسوقي من المالكيةِ، والإمامُ السِّبكي، وأبو عبدِ اللهِ الأذرعيّ، وابنُ حَجَرٍ الهَيتمي من الشَّافعيةِ، وَيُحْمَلُ النَّهْيُ عندَهم في الحديثَ عَلَى مَا قُصِدَ بِهِ الْمُبَاهَاةُ وَالزِّينَةُ وَالصِّفَاتُ الْكَاذِبَةُ، أَوْ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أمَّا إِنْ اُحْتِيجَ إلَى الْكِتَابَةِ حَتَّى لَا يَذْهَبَ الْأَثَرُ وَلَا يُمْتَهَنَ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
وبناءً على ما سبقَ فكتابةُ اسمِ صاحبِ القبرِ إذا كان للحاجةِ بقصدِ التَّعرف ِعليهِ لا كراهةَ فيها، وخصوصاً إذا كانَ من العلماءِ والأُمراءِ الصالحينَ التَّاريخيِّين حتَّى لا يندَثرَ، وليسَ في المذاهبِ ِالأربعة في المعتمدِ عندَهم قولٌ بالتَّحريمِ، فالقولُ بتحريمِ الكتابةِ على القبرِ تشديدٌ بعيدٌ عن روحِ الفقهِ ومسالكِه. واللهُ أعلمُ…
مذهبُ الحنفيَّةِ:
قالَ ابنُ عابدين في حاشيتِه ” لأنَّ النَّهي عنها – يقْصِدُ الكتابةَ على القبرِ – وإنْ صحَ فقدْ وُجدَ الإجماعُ العمليُّ بها، فقدْ أخرجَ الحاكمُ النَّهي عنها منْ طُرقٍ ثمَّ قالَ: ” هذهِ الأسانيدُ صحيحةٌ وليس العملُ عليها فإنّ أئمةَ المسلمينَ من المشرقِ إلى المغربِ مكتوبٌ على قبورِهم وهو عملٌ أَخَذَ به الخلَفُ عن السلفِ ويتقوّى بما وردَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ حملَ حجراً فوضعَه عندَ رأسِ عثمانِ بنِ مضعون ٍوقالَ : ( أتعلَّمُ بها قبرَ أخي ، وأدفُنُ إليه من ماتَ من أهلي ) [ أبو داود ] فإنَّ الكتابةَ طريقٌ إلى تعرُّفِ القبرِ بها ، نعم يظهرُ أنَّ محَلَّ هذا الإجماعِ العمليِّ على الرخصةِ فيها ما إذا كانت الحاجةُ داعيةً إليه في الجملةِ ، حتَّى يُكرَه كتابةُ شئٍ عليه من القُرآنِ أو الشِّعرِ أو إطراءِ مدحٍ ونحو ذلك “
قالَ الطَّحْطَاويّ: ” ((وقولُه ولا بأسَ أيضاً بالكتابةِ)) قالَ في البحرِ الرَّائقِ : الحديثُ المتقدمُ يمنعُ الكتابةَ فليكنْ هو المعوّلُ عليه ، لكنْ فصّلَ في المحيطِ فقالَ : إنِ احتيجَ إلى الكتابةِ حتى لا يذهبَ الأثرُ ولا يمتهنَ به جازَتْ ، أمَّا الكتابةُ من غيرِ عذرٍ فلا “
قالَ العينيُّ: ” وكرِهَ أبو يوسف أن يُكتبَ عليه وفي قاضي خان ولا بأسَ بكتابةِ شئٍ أو بوضعِ الأحجارِ ليكونَ علامةً وفي المحيطِ ولا بأسَ العذرِ “
مذهبُ المالكية :
قال خليل : ( وجازَ للتمييزِ ) قالَ شراحه : ” أي البناءُ أو التحويزُ كما يجوزُ وضعُ خشبةٍ أو حجرٍ عليه بلا نقشٍ وإلا كُرِهَ إلا أن يكونَ النقشُ بقرآنٍ فتظهرُ الحرمةُ خوفَ الامتهان “
قال ُابنُ رشدٍ : ” كَرِهَ مالكٌ البناءَ على القبرِ وأنْ يجعلَ البلاطةَ المكتوبةَ ، لأنَّ ذلكَ منَ البِدَعِ التي أحدثَها أهلُ الطولِ من إرادةِ الفخرِ والمباهاةِ والسُمعَةِ ، وذلكَ ممّا لا اختلافَ في كراهتِه وقالَ ابنُ العربيِّ في [ العارضة ] : وأما الكتابةُ عليها فأمرٌ قدْ عمَّ الأرضَ ، وإنْ كانَ النهيُّ قدْ ورد َعنه ، ولكنهُّ لمّا لم يكنْ من طريقٍ صحيحٍ تَسامحُ الناسُ فيه ، وليسَ له فائدة ٌإلا التعليم للقبرِ لئلا يدثر ” .
قال الشيخُ عُلَيش : ” وجازَ للتَّمييزِ ِبين القبورِ كحجرٍ إذ هو اسم ٌبمعنى مثل يغرزُ على القبرِ علامةً أو خشبةً كذلك بلا نقشٍ لاسمهِ أو تاريخِ موتِه على الحجرِ أو الخشبةِ وإلا كره وإن بوهي به حَرُمَ وينبغي حرمةُ نقشِ القرآنِ وأسماءِ اللهِ تعالى مطلقاً لتأديتِه إلى الامتهانِ وكذا نقشِها على الحيطان “
قالَ ابنُ القاسمِ : ” لا بأسَ أنْ يجعلَ الرجلُ على القبرِ حجراً أو خشبةً أو عوداً يَعرفُ به قبَر وليهِ ما لم يكتُبْ في ذلك “
مذهبُ الشَّافعية :
قالَ النَّوويُ في المنهاجِ : ” ويُكرَه تجصيصُ القبرِ والبناءُ والكتابةُ عليهِ ” وكذا قالَهُ في الروضةِ وعلّقَ الرمليُّ في النهايةِ فقالَ : ” سواءٌ كان اسم ُصاحبِهِ أم لا في لوح ٍعندَ رأسِه أم في غيرِه كما في المجموعِ نعم يُؤخَذُ من قولهِم إنَّه يُستحَبُ وضعُ ما يُعْرَفُ به القبورُ أنه لو احتاجَ إلى كتابةِ اسمِ الميتِ لمعرفتِه للزيارة ِكان مستحباً بقدرِ الحاجةِ “.
قال النَّوويُ في المجموعِ : ” قالَ الشافعيُ والأصحابُ يُكرَهُ أنْ يُجصصَ القبرُ وأن يُكتب َعليه اسمُ صاحبِه أو غيرُ ذلك وأن يبنيَ عليه وهذا لا خلافَ فيه عندَنا وبه قالَ مالكٌ وأحمدٌ وداودٌ وجماهيرُ العلماءِ وقالَ أبو حنيفةَ لا يُكرَه ” .
قال ابنُ حجَر في [الفتاوى الكبرى] : ” أطلقَ الأصحابُ كراهةَ الكتابةِ على القبِر لورودِ النهيِّ عن ذلك رواهُ الترمذي وقال: حسنٌ صحيح، واعترضَه أبو عبدِ اللهِ الحاكمِ النيسابوري المحدِّثِ بأنَّ العملَ ليسَ عليه فإنّ أئمةَ المسلمين من الشرقِ إلى الغرب ِمكتوبٌ على قبورِهم وهو عملٌ أخذَ به الخلفُ عن السلفِ رضيَ اللهُ عنهم وما اعترضَ به إنما يَتجِهُ أنّ لو فعله أئمةُ عصرٍ كلُهم أو علّمُوه ولم يُنكرِوهُ وأيُّ إنكارٍ أعظمَ من تصريحِ أصحابِنا بالكراهةِ مُستدَلين بالحديثِ هذا وبحثَ السبكيُ والأذرعيُ تقييدَ ذلك بالقدرِ الزائدِ عمّا يَحْصلُ به الإعلامُ بالميتِ …….. فإن أرادَ كتابةَ اسمِ الميتِ للتعريفِ فظاهرٌ ويُحمَلُ النهيُّ على ما قُصِدَ به المباهاةُ والزينةُ والصفاتُ الكاذبة “
مذهب ُالحنابلة :
قال ابنُ قدامة في المغني : ” ويُكرَهُ البناءُ على القبرِ وتجصيصُه والكتابةُ عليه ” .
وقال المرداوي في ” الإنصافِ “: ” أما تجصيصُه فمكروه ٌبلا خلافٍ نعلَمَه وكذا الكتابةُ عليه وكذا تزويقُه وتخليقُه ونحوه وهو بِدعةٌ “
قال ابنُ مفلح : ” ويُكرَه الكتابةُ عليه وتجصيصُه وتزويقُه وتخليقُه ونحوه “.
قال البهوتي : ” وكُرِهَ {تزويقُه } أي القبُر { وتخليقُه } أي طَليُه بالطين { ونحوه } كدهنِهِ ، لأنه بدعةٌ وغيرُ لائقٍ بالحالِ ، { وكُره تجصيصُه والاتكاءُ عليه والمبيتُ } عندَه { والكتابةُ } على القبرِ “.
قال الشيخُ ابن ُقاسم: ” نُهيَ أنْ يُبنى على القبرِ أو يُزادَ عليه أو يُجَصصَ أو يُكتَبَ عليه ” وظاهرُه تحريمُ الكتابةِ عليه . وقالَ رحمهُ الله تعالى معلقاً على قولِ الحنابلةِ في مسألةِ كراهيتِهم تجصيصَ القبورِ والبناءَ عليها في حاشية ِالروض : “ومن ظنَ أنَّ الأصحابَ أرادوا كراهةَ التنـزيهِ فقدْ أبعدَ النجعة “
وفي ” المجلى في الفقهِ الحنبلي : ” ويُكرَه تجصيصُ القبرِ ، وتزويقُه ولا بأسَ بتطيينه ، وتُكرَه الكتابةُ عليه “.
مذهبُ الظاهريَّة :
قال ابنُ حزمٍ : ” ولا يحلُّ أنْ يبنى القبرُ ، ولا أن يُجَصَصَ ، ولا أن يزادَ على ترابِه شيءٌ ، فإن بنى عليه بيتاً أو قائماً لم يُكرَه ذلك ، وكذلك لو نقشَ اسمَه في حجرٍ لم نَكرَه ذلك.. “