السؤال : هل صحيح أن من حفظ القرآن أو شيئا منه ثم نسيه لانشغاله بدراسة أو عمل أو نسيه بلا سبب كعدم مراجعته بأوقات فراغه إن وجد .. يأثم؟
الجواب:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا ) رواه الترمذي وضعفه، ونقل عن البخاري استغرابه
عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ امْرِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْسَاهُ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْذَمَ ) رواه أبو داود
اختلف العلماء في حكم نسيان القرآن ممن كان حفظه:
قال ابن حجر – رحمه الله: “واختلف السَّلف في نسيان القرآن، فمنهم مَنْ جعل ذلك من الكبائر”.فتح الباري شرح صحيح البخاري.
وقال السُّيوطي – رحمه الله: “نسيانه كبيرة، صرَّح به النَّووي في الرَّوضة وغيرها” الإتقان في علوم القرآن
وقال ابن حجر الهيتمي – رحمه الله: “عَدُّ نسيانِ القرآنِ كبيرةٌ، هو ما جرى عليه الرَّافعي وغيرُه”الزواجر عن اقتراف الكبائر.
وقال الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله : ونسيانه كبيرة، وكذا نسيان شيء منه ؛ لخبر ( عُرضت عليَّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها ) ، وخبر ( من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله عز وجل يوم القيامة أجذم ) رواهما أبو داود ) ا.هـ
وبيَّن المُناوي رحمه الله سَبَبَ كونِ النِّسيان كبيرة، بقوله: “لأنَّه (أي: النِّسيان) إنَّما نشأ عن تشاغله عنها (أي: الآيات القرآنيَّة) بلهوٍ أو فضولٍ، أو لاستخفافه بها، وتهاونه بشأنها، وعدم اكتراثه بأمرها، فيعظم ذنبُه عند الله؛ لاستهانة العبد له، بإِعراضه عن كلامه”فيض القدير .
وقال أيضاً: “نسيانُ القرآنِ كبيرةٌ، ولو بَعْضاً منه، وهذا لا يناقضه خَبَرُ: (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ؛ لأنَّ المعدود هنا ذنباً، التَّفريطُ في محفوظه، بعدم تعاهده ودَرْسه.”
وذكر الزَّركشي رحمه الله أنَّ الله عزّ وجل توعَّد المُعْرِضَ عن القرآن، ومَنْ تعلَّمه ثمَّ نَسِيَه والمراد بنسيان القرآن – الذي هو كبيرة من الكبائر: هو النَّاتج عن التَّشاغل بالدُّنيا، واللُّهاث وراء شهواتها، وترك تلاوة القرآن واستذكاره، كما تقرَّر سابقاً. البرهان في علوم القرآن
إذا انشغل العبد بالعلم الواجب أو المندوب، وترتَّب على ذلك نسيان شيء من القرآن المحفوظ، فلا يُعَدُّ صاحبُه آثماً، وقد مضى أنَّ ابن رشدٍ المالكيَّ رحمه الله نقل إجماعَ أهل العلم على ذلك:
قال ابن رشد المالكي : ” إن كان ترك التكرار لاشتغاله بمعاش واجب أو مندوب لم يأثم بالنسيان إجماعاً وإلا أثم”. فتاوى ابن رشد
وقد نقل ابن حجرٍ الهيتمي رحمه الله عن بعض العلماء أنَّ محلَّ كون نسيان القرآن كبيرة مشروطٌ بأنْ يكون عن تكاسل وتهاون، وهذا احترازٌ عمَّا لو اشتغل عن القرآن بمرضٍ مانعٍ من القراءة، وعدمُ التَّأثيم بالنِّسيان حينئذٍ واضح؛ لأنَّه مغلوبٌ عليه، لا اختيار له فيه. الزواجر عن اقتراف الكبائر
وفي حاشية الرملي (أسنى المطالب) :”قوله : ” ونسيانه كبيرة ” موضعه إذا كان نسيانه تهاوناً وتكاسلاً “
قال الإمام الشوكاني: قَوْلُهُ : “( فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ ) قَالَ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ : أَيْ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ لِأَنَّ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ مِنْ الْحِفْظِ لَيْسَ بِذَنْبٍ كَبِيرٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ اسْتِخْفَافِهِ وَقِلَّةِ تَعْظِيمِهِ لِلْقُرْآنِ ، وَإِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا التَّشْدِيدَ الْعَظِيمَ تَحْرِيضًا مِنْهُ عَلَى مُرَاعَاةِ حِفْظِ الْقُرْآنِ انْتَهَى .
وَالتَّقْيِيدُ بِالصَّغَائِرِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : ” نَسِيَهَا ” تَرَكَ الْعَمَلَ بِهَا .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } وَهُوَ مَجَازٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِمُوجِبٍ”. نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار
وقد ذهب بعض العلماء أن نسيان القرآن لا إثم فيه وأوّلوا الأحاديث بأن النسيان بمعنى ترك العمل به مع ضعفها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : وأخرج أبو عبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفاً قال : ” ما مِن أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه ؛ لأن الله يقول : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } ، ونسيان القرآن من أعظم المصائب ” [فتح الباري]
قال أبو العباس القرطبي – رحمه الله ” مَن جمع القرآن : فقد علت رتبته ، ومرتبته ، وشرف في نفسه ، وقومه شرفاً عظيماً ، وكيف لا يكون ذلك و من حفظ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين كتفيه ” قاله عبد الله بن عمرو بن العاص ، وقد صار ممن يقال فيه : ” هو مِن أهلِ الله تعالى وخاصته ” [ رواه ابن ماجه، وهو صحيح ]، وإذا كان كذلك : فمِن المناسب تغليظ العقوبة على من أخلَّ بمزيته الدينية ، ومؤاخذته بما لا يؤاخذ به غيره ، كما قال تعالى : { يا نساء النبي من يأتِ منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } [الأحزاب : 30] ؛ لاسيما إذا كان ذلك الذنب مما يحط تلك المزية ويسقطها ؛ لترك معاهدة القرآن المؤدي به إلى الرجوع إلى الجهالة .
[المُفهِم لما أُشكِل من تلخيصِ كتابِ مُسلِم]
قال ابن عبد البر القرطبي المالكي: “وقد كان ابن عيينة يذهب في أن النسيان الذي يستحق عليه صاحبه اللوم ويضاف إليه فيه الإثم هو الترك للعمل به
ومعلوم أن النسيان في كلام العرب الترك قال الله عز وجل فلما نسوا ما ذكروا به الأنعام 44 أي تركوا
وقال ((نسوا الله فنسيهم التوبة)) 67 : أي تركوا طاعة الله فترك رحمتهم. ” الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار