الرد بالتفصيل:
المرأة و نظام الطلاق في الإسلام
إن جلّ مكونات حياتنا الدنيوية، مسخر لرغبات الإنسان وقدراته، ومن ثم فإن حياتنا هذه مليئة بالمتعة وأسبابها. غير أنها ممزوجة في الوقت ذاته بكل أنواع المصائب والمعكرات.
إن التعامل السليم مع الحياة لا بدّ أن ينهض على أساس من تحمُّل المسؤوليات والأمانة التامة في أدائها. فمن سعى إليها بعيداً عن تحمل تلك الأعباء وصل إليها ممزوجة بعكر من المآسي والمصائب المتنوعة التي لا بدّ أن تذهب بجدوى تلك المتع من أساسها.
وما الإسلام إلا تبصير للإنسان بهذه الحقيقة، ثم إرشاد له إلى تلك المناهج والسبل التي إن سار عليها وتقيّد بها أوصلته إلى متع الحياة محفوظة عن سائر المآسي والمنغصات. صحيح أن التقيد بتلك المناهج والسبل هو بحدّ ذاته من المنغصات التي تض
يق بها النفس، إلا أنها أقل بكثير مما لا بدّ أن يتحمله ويعاني منه، فيما لو قفز فوق تلك المناهج وغامر إلى أهوائه ومُتعه بعيداً عن تلك الضوابط والقيود.
غير أن الغربيين – وقد أوغلوا في دراساتهم واكتشافاتهم العلمية – ماضون في بذل كل جهد ابتغاء تسخير العلم للقضاء على تضاريس المسؤوليات التي تفرض سلطانها في الحياة، وتقف حاجزاً أمام الوصول إلى واحة المتعة وأسباب النعيم.
لقد كان من أبسط قواعد العلم، لو وعى الغرب قواعد العلم، أن العلم صفة كاشفة لا صفة مؤثرة. فهو يكشف عن نواميس الكون والحياة، لا يغير شيئاً منها، وهيهات للحضارات كلها، ما هو سائد منها وما قد باد، أن تغير من نواميس الحياة وقوانينها شروى نقير.
فمن الطبيعي والحق أن ينظر الإسلام إلى المرأة من خلال هذه النواميس التي كانت ولا تزال تفرض ذاتها، أي من خلال كونها عضواً أصيلاً في أسرة، من خلال اليقين بأن الأسرة المتماسكة السليمة هي العمود الفقري في المجتمع الإنساني السليم.
وبدهي أن كلاً من الرجل والمرأة لا يشكل ركناً في الأسرة إلا عندما تربطه بالثاني عقدة الزواج. فالتلاقي الرضائي بينهما، باسم الخلة أو الصداقة، لا يشكل رابطة مسؤولية، ومن ثم لا تتكون منها أسرة.
ولكي يقوم الزواج على أساس راسخ، ينبغي أن يتم طبق منهج فطري يتفق مع طبيعة كل من الرجل والمرأة. وهذا يعني أن يكون الرجل هو الطالب والمرأة هي المطلوبة.
ولكي يسير الأمر على هذا المنوال يجب أن يتقدم الطالب – لا المطلوب – بالمنحة المالية (المهر) بين يدي خطبته؛ إذ لا يصح في ميزان العرض والطلب أن يكون الطالب هو الآخذ والمطلوب هو المعطي.
وهناك من يقول: وماذا في أن تتحول المرأة إلى طالبة؟ والجواب أن هذا يُخالف فطرة الأنوثة أولاً، إذ المرأة لا يسعدها إلا أن يسعى الرجل وراءها ويبحث عنها. ثم إن سعيها وراء الرجل يجعلها تسقط عشرين سقطة ريثما تعثر على الزوج الذي هو زوج فعلاً، هذا إن عثرت عليه.
إذن فالسبيل الفطري السليم إلى إنشاء عقد الزواج، أن يتقدم الرجل بالطلب.
والضمانة لسير الأمر على هذا المنوال أن يدفع الرجل المهر للمرأة لا العكس. غير أن الزواج معرض بعد ذلك للانحلال وأسبابه. ومهما كانت أسبابه الظاهرة تافهة، فقد يكون من العسير، بل من الخطير، الحيلولة دون وقوعه؛ إذ إن سببه الحقيقي في كثير من الأحيان يكون نفسياً مزاجياً، الأمر الذي يجعل من حتمية استمرار الاقتران مبعث شقاء، بل ربما خطرٍ، على كل من الزوجين.
ومن ثم فإن مبدأ النصح لكل من الزوجين باستمرار التعايش والتفاهم، أساسي وضروري. ثم مبدأ التحكيم، كما أمر به القرآن، لتذويب ما قد يكون بينهما من خصومة ومشادة، ما كان السبيل إلى ذلك ممكناً.
فإذا لم تُجْدِ المحاولتان شيئاً، فإن الحيلولة دون انحلال عقد الزواج أمر لا معنى له عندئذ، إذ هو لا يعني إلا مزيداً من الضغط ابتغاء تعجيل الانفجار.
ثم إن انحلال الزواج إذا تم باتفاق الإرادتين، فلا إشكال في ذلك قط.
أما إن لم تكن الإرادتان متفقتين، فإن المبدأ الذي يقتضيه النظام الذي أسست عليه الحياة الزوجية، بما فيه من مهر يقدمه الطالب
إلى المطلوب، هو أن يُعطى الزوج حق التطليق على أن يبقى المهر كله ملكاً للزوجة، يضاف إليه الهدايا والأعطيات التابعة.
فميزان العدالة في هذه الحالة يتألف من كفتين: إحداهما الحق الذي ينبغي أن يُعطاه الزوج في التطليق نظراً إلى أنه هو الطالب ومن ثم هو الدافع للمهر وتكاليف الزواج، والثانية الحق الذي ينبغي أن تُعطاه الزوجة في استيفاء مهرها ودوام تملكها له، نظراً إلى أنها كانت هي المطلوبة وأنها لم تكن صاحبة رأي في هذا الفراق.
وعندما تحاط الزوجة علماً بهذا الميزان، فإنها تملك أن تحصّن نفسها ضد أضرار هذا الفراق المتوقع بفرض الرقم المالي الذي تشاؤه لنفسها، مهراً متقدماً ومتأخراً، تؤجله وتعجّله حسبما تشاء.
والضرر الواقع على الزوجة في حال طلاق الزوج لها (أو إعطاؤه حق الطلاق) يُقابل بضرر يُعادله يقع بالزوج، وهو الغُرم (أي تمليك الزوجة مهرها كاملاً) الذي حمَّله الشارع إياه لقاء ما أولاه من حق إنهاء العلاقة الزوجية.
ولا يشك عاقل أن الزوج لا يقدم على الطلاق، وقد علم بذيول الغرامات التي لا بدّ أن تتبعه، وتستقر على كاهله، إلا وثمة واقع أشدّ من تلك الغرامات، يدفعه دفعاً إلى الطلاق، ومهما يكن هذا الواقع، مادياً أو نفسياً، فإن محاولة تجاهله وصد الزوج عن الفراق لن يحقق أي خير للزوجة.
ولذا قضت الشريعة بأن خيراً لها من هذا الاقتران الذي هو السجن ذاته، أن تنشط من عقال، وأن تفوز بكامل ما استقر لها من مهر وتوابعه.
أما الزوجة لو أُعطيت حق الطلاق في نطاق النظام الأساسي للزواج، لكان ذلك فرصة لها، أن تجعل من مسألة الزواج مشاريع تجارية متلاحقة رابحة دون الحاجة إلى رأس مال أو بذل أي جهد. إذ ما عليها إلا أن تتبرم بحياتها الزوجية، وأن تصطنع مشكلة ما، بينها وبين زوجها، ثم توقع الطلاق عليه، بعد أن تستولي على كامل مهرها. ثم تتجه إلى مشروع زواج جديد لتطبق الخطة نفسها، وتستولي على مهر جديد، وهكذا دواليك.
ومع ذلك فإن الشريعة وضعت في الحسبان احتمال وقوع جور على الزوجة من قبل الزوج، فأعطت القاضي حق النظر في الأمر، حتى إذا تحقق من وقوع هذه الظلامة عليها ورأى أن لا سبيل إلى إنصافها إلا بحلّ عرى الزوجية بينهما، كان له حق تطليقها منه، دون أن تخسر شيئاً من مهرها وسائر حقوقها المالية.
بل إن فقهاء الحنفية ذهبوا إلى أن للزوجة أن تشترط أثناء عقد الزواج، أن تكون عصمتها بيدها، أي تملك أن تُطلق نفسها منه متى شاءت، فإذا وافق الزوج على هذا الشرط امتلكت الزوجة بذلك هذا الحق.
ثم إن الشريعة الإسلامية وضعت في الحسبان، أن الزوجة قد تتبرم بزوجها بعامل مزاجي دون جريرة منه ولا تقصير في أداء شيء من حقوقها. فيسرت لها تحقيق رغبتها في الانفكاك عنه عن طريق المخالعة، وهي أن تتفق مع زوجها على المتاركة مقابل أن تتنازل له عن جزء من مهرها أو عن كله. ولا شك أن من حق الزوج أن يشترط عليها هذا التنازل ما دام أن رغبتها في الانفكاك عنه ليست مبررة بأي سوء أو تقصير صدر منه.
ومع ذلك فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن الطلاق جهد الاستطاعة، وحذر منه أيما تحذير، وأعلن عن كراهية الشارع له وبغضه له، فقال صلى الله عليه وسلم: ” أبغض الحلال عن الله الطلاق “. وهو تحذير عام موجه إلى كل من الزوج والزوجة معاً.
أما الطلاق تعسفاً، وعلى سبيل المضارّة، فهو محرم ديانة يعرّض الزوج لعقاب من الله عز وجل. وهذا الطلاق يقع وإن كان محرماً لأن الزوج الذي أصرّ على مفارقة زوجته دون أن يُغير من رأيه صلح ولا نصح، لا جدوى من الضغط عليه بأن يمسك عليه زوجه، بل لا يثمر الضغط عليه إلا مزيداً من الإضرار بالزوجة والإساءة إليها، وربما الإهلاك لها. لذا فقد اقتضت مصلحة الزوجة أن يتم للزوج ما أراد على أن يعلم أنه مضارّ وأنه معرض لعقاب كبير من الله تعالى.
فالشريعة الإسلامية لم تفرق في سياسة الطلاق، ومسألة انحلال الزوجية، عموماً، بين الرجل والمرأة؛ فلم تهدد المرأة وتتوعدها بالعقاب إن هي طلبت الطلاق، ثم تهمسْ في أذن الرجل أنّ له هو أن يفعل ما يشاء. بل إنّ ما وجّهه في ذلك من تحذير إلى الرجل بخصوصه أبلغ وأكثر. ولكن الشريعة الإسلامية نظمت الطريق العمليّ الأمثل لإنهاء الحياة الزوجية عندما لا يكون عن ذلك مناص، بحيث لا يقع أحد الزوجين ضحية ظلم من الآخر.
هذه مشكلاتهم – د.محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)