بِسمِ اللهِ الرَّحمن الرّحِيمِ
شبهة 2:
تقول الشبهة:
وَرَدَ في كثيرٍ مِنَ الآياتِ مَا يُبيِّنُ أنَّ القُرآنَ نزلَ مُفسَّرَاً لَا يَحتاجُ إلى تَوضيحٍ وذلكَ كقَولِهِ تَعالى:
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174]
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114]
{وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِين} [يونس: 37]
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]
وغيرِهَا مِنَ الآياتِ الَّتي تَدُلُّ عَلى أنَّ القُرآنَ نَزَلَ مُفسَّراً… فَلِمَ التَّفسيرُ إذنْ؟
الجواب:
قسّمَ سيِّدُنا ابنُ عبَّاسٍ التَّفسيرَ إِلى أربَعَةِ أقسامٍ فَقالَ: ” قِسمٌ تَعرِفُهُ العَرَبُ فِي كَلامِها، وقِسمٌ لَا يُعذَرُ أَحدٌ بِجَهالَتِه، وقِسمٌ يَعلَمُهُ العُلماءُ خاصَّةً، وقِسمٌ لَا يعلَمُهُ إلّا اللهُ “.
فالقسمُ الأوَّلُ: كَقولهِ تَعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فالعربُ كانَتْ بِسَليقَتِهَا تَعلَمُ مَعنى الحَمدِ، ولِماذا آثَرَ المَولَى لَفْظَ الحَمْدِ وَلمْ يَستَخدِمْ أيّاً مِنَ الثَّناءِ أوِ الشُّكرِ وَغيرَ ذلكَ مِنَ المَعَانِي…
وكَقَولِ اللهِ أَيضاً: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَالعَرَبُ مِن كَلامِهِم يَعلَمُونَ مَا يُفِيدُهُ تَقديمُ الضَّميرِ المُنفَصِلِ مِنَ الاختِصَاصِ والحَصْرِ وَغيرِ ذلكَ…
وأمَّا القسم ُالثّاني: كَالعِلمِ بِوَحْدَانيَّةِ اللهِ تَعالى مِنْ قَولِهِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [مُحمَّد: 19].
وأنَّ سيَّدَنَا عيسى عليهِ السَّلامُ رَسولٌ مِنَ الرُّسُلِ الَّذينَ أرسلَهُم المَولَى، وذَلِكَ مِنْ قَولِهِ تَعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [المائدة: 75].
وأمَّا القسمُ الثَّالثُ: فَهوَ المُرادُ وعَليهِ المُعوَّلُ ويَقولُ الزَركَشِيُّ: ” ولمْ يُنقَلْ إلَينَا عَنهُم – أي الصَّحابةُ – تفسيرُ القرآنِ وتَأويلُهِ بِجُملَتِهِ، فَنَحنُ نَحتاجُ إلى مَا كانوا يَحتاجونَ إليهِ وزِيادةٍ، عَلى ما لم يَكونوا مُحتاجينَ إليهِ مِنْ أحكامِ الظَّواهرِ؛ لِقُصُورِنَا عَن مَدَارِكِ أَحكامِ اللُّغةِ بِغَيرِ تَعَلُّمٍ، فنحنُ أشَدُّ النَّاسِ احتياجَاً إلى التَّفسيرِ “.[1] وذَلك َكاستنباط ِالأحكامِ وتخصيصِ العُمومِ وتَقييدِ المُطلَقِ وغيرِهَا…، ويُمكنُ أنْ نُقسِّم القرآنَ إلى آياتٍ مُجملَةٍ وآياتٍ مُفصَّلَةٍ، فالآياتُ المُجملةُ كَقولهِ تَعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فالآياتُ تدلُّ عَلى كلٍّ مِنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والحَجِّ دونَ ذِكرِ شَيءٍ مِن أَركَانِهَا أَو وَاجِبَاتِهَا أَو أوقَاتِهَا أو غيرِ ذلكَ ممَّا يَدلُّ عَلَيها، وهُنا يَأتي دورُ المُفسِّرِ لِيُبَيِّنَ لَنا فَرَضِيَّتَها وأحكامَهَا، ومَا يتَعَلَّقُ بِهَا ممَّا قَدْ تُعلِّمُه مِنْ عُلومٍ كالحديثِ والعَربيَّةِ والأصولِ وغَيرِها…
وأمَّا الآياتُ المُفصَّلَةُ فَكآياتِ المِيراثِ، فَقد فَصَّلَ وبيّنَ المَولَى فِيها حُكمَ الوارثِينَ، وذَلكَ في آياتِ الميراثِ في سُورةِ النِّساءِ[2]، وعلى هذا يُمكنُ القَولُ بأنَّ ما جاءَ مِنْ آياتٍ تَدُلُّ على أنَّ القرآنَ نَزَلَ مُبيَّنَاً ومُفسَّرَاً، يُمكنُ أنْ تُفَسَّرَ عَلى أنَّها مُبيّنةٌ لِكُلِّ الأحكامِ الّتي يحتاجُ النّاسُ إلَيها إجمَالاً، فَإنْ قِيلَ: كَيفَ ذلكَ؟ قُلْنا: عَنْ طريقِ ذِكْرِ القَاعدةِ أوِ الحُكمِ بالإجمالِ، فالمَولى مَثَلاً لَمْ يُبيِّنْ لَنا حُكمَ شُربِ البِيرةِ في القرآنِ، لكنَّه أعطَانا القاعِدَةَ فِي ذلكَ مِن قَوله تَعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] فالقرآنُ حرَّمَ الخمرَ بالتّصريحِ وحرَّمَ البيرةَ بِالقياسِ على الخَمرِ، بدليلِ الاشتراكِ في نفسِ العِلَّةِ ألَا وهِيَ الإسْكَارُ، إذنْ فالقرآنُ بيّنَ عَلى سَبيلِ الإِجمالِ كُلَّ مَا يَحتاجُهُ النَّاسُ ولَو لَم يُصَرِّحْ بِهِ، أو يُمكنُ القَولُ بأنَّ مَا جَاءَ مِن آياتٍ تَدلُّ عَلى أنَّ القُرآنَ نَزَلَ مُبيَّنَاً ومُفَسَّرَاً، إنَّما هِيَ فِي الآياتِ الّتي نَزَلَتْ مُفَصَّلَةً مُبيَّنَةً كما بيَّنَّا آنِفَاً، ولَكن حتَّى على هذا القَولِ لا يُمكنُ الاستغناءُ عنِ المفسِّرِ فِي استنباطِ الأَحكامِ والحِكَمِ مِن مِثلِ هَكَذا آياتٍ.
أمّا القسمُ الرّابعُ: فكالآياتِ الّتي تتحدّثُ عَنْ علاماتِ السّاعةِ، والأمورِ الغَيبيَّةِ والحرُوفِ المقَطَّعَةِ ممَّا قَدِ استأثَرَ اللهُ بِهِ.[3]
ممَّا سبقَ يتبيَّنُ لنَا دورُ وأهمّيةُ المفسِّرِ في بيانِ وكشفِ مُرادِ اللهِ تَعالى مِنْ آيَاتِهِ، ومَعنى الآياتِ الواردةِ في التّفسيرِ والبَيانِ وكيفَ لنا أنْ نَفهَمَهَا.
[1] البرهان في علوم القرآن (1/ 15)
[2] {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} [النساء].
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [النساء176].
[3] كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187].
أ. مدين أبو عرفة