قالَ بعضُ الصّالحينَ:
دَخلْتُ مصرَ فَوَجدْتُ بِها حَدّاداً يُخرِجُ الحديدَ مِنَ النَّارِ بِيَدِهِ وَيقلِبُهُ عَلَى السّندانِ، وَلا يَجدُ لِذلكَ ألَمَاً،
فَقُلْتُ في نَفسي: هَذَا عبدٌ صالحٌ لا تَعدو عَليهِ النَّارُ،
فَدَنَوتُ منهُ وَسَلَّمْتُ عَليهِ، فَرَدَّ عَليَّ السَّلامَ،
فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيّدي، بالّذي مَنَّ عَلَيكَ بِهذهِ الكَرَامَةِ إلَّا مَا دَعَوتَ لي،
فَبَكى وَقالَ: يا أخي، مَا أنا كَمَا ظَنَنْتَ،
فَقُلْتُ لَهُ: يا أخي، إنَّ هَذا الّذي فَعَلْتَهُ لَا يَقدِرُ عَليهِ إلَّا الصّالحونّ،
فَقالَ: اسمعْ إنَّ لي حَديثَاً عَجيباً،
فَقُلْتُ: فَإنْ رَأَيتَ أنْ تَطرِفَني بِهِ فَافعَلْ،
قَالَ: نعم، كُنْتُ يَومَاً مِنَ الأيَّامِ جَالِسَاً في هذا المكانِ وَكُنْتُ كَثيرَ التّخليطِ، إذْ وَقَفَتْ عَلَيَّ امرأةٌ جميلةُ الصّورَةِ لَمْ أرّ قَطُّ أحسَنَ مِنْها وَجهَاً،
فَقَالَتْ: يا أخي، هَلْ عِندَكَ شَيئاً للهِ تَعَالى؟
فَلمَّا نَظرْتُ إليها فُتِنْتُ بِهَا،
وَقُلْتُ لَها: هلْ لكِ أنْ تَمضي مَعي إلى البيتِ وَأدفَعُ لَكِ مَا يَكفيكِ زَمَاناً طَويلاً،
فَقَالَتْ: وَاللهِ لَسْتُ مِمَّنْ يَفعَلُ هَذا،
فَقُلْتُ: اذهَبي عَنّي،
قَالَ: فَذَهَبَتْ وَغَابَتْ عَنّي طَويلَاً، ثُمَّ رَجَعَتْ
وَقالَتْ: قَدْ أحوَجَتْني الضّرورَةُ إلى مَا أرَدْتَ،
قالَ: فَغلّقْتُ الدُّكّانَ وَمَضَيتُ بِهَا إلى البَيتِ،
فَقَالَتْ: يا هذا، إنَّ لي أطفالاً وَقَدْ تَرَكْتُهُمْ عَلَى فَاقَةٍ، فَإنْ قَدرْتَ أنْ تُعطيني شَيئاً أذهَبُ بِهِ إليهِمْ وأرجِعُ إليكَ فَافعَلْ مَا بَدَا لَكَ،
قَالَ: فَأخَذْتُ عَلَيها العَهدَ وَالميثاقَ،
ثُمَّ دَفعْتُ إليها دَرَاهِمَ فَمَضَتْ وَغابَتْ سَاعةً ثُمَّ رَجَعَتْ،
فَدَخَلْتُ مَعَها إلى البيتِ وأغلَقْتُ البابَ،
فَقَالَتْ: لِمَ فَعَلْتَ هَذا؟
فَقُلْتُ: خَوفَاً مِنَ النّاسِ،
فَقَالَتْ: وَلِمَ لا تَخافُ مِنْ رَبّ العَالمينَ؟
قُلْتُ: إنّهُ غَفورٌ رَحيمٌ،
ثُمَّ تَقدَمْتُ إليها فَوَجَدْتُها تَضطرِبُ كَمَا تَضطرِبُ السّعفَةُ في يَومِ ريحٍ عَاصِفٍ وَدموعُهَا تَتَحَدّرُ عَلَى خَدَّيها،
فَقُلْتُ لَهَا: مِمَّ اضطرابُكِ وَبُكاؤكِ؟
فَقَالَتْ: يا هذا، خَوفَاً مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،
ثُمَّ قَالَتْ: يا هذا إنْ تَرَكْتَني للهِ عَزَّ وَجَلَّ ضَمِنْتُ لَكَ أنْ لا يُعَذّبَكَ بِنارِهِ لا في الدُّنيا وَلا في الآخِرَةِ،
قالَ: فَقُمْتُ عَنها وَدَفعْتُ لَها جَميعَ مَا كانَ عندي،
فَقُلْتُ: اذهبي لِسَبيلِكِ وَقَدْ تَرَكْتُكِ خَوفاً مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،
قالَ: فَلمَّا فَارَقْتني غَلَبَتْني عَيني
فَرَأيتُ امرَأةً أحسَنَ مِنها وَجهاً، وَعَلَى رَأسِهَا تَاجٌ مِنْ ياقوتٍ،
فَقَالَتْ: يا هَذَا، جَزَاكَ اللهُ عَنَّا خَيرَاً،
فَقلْتُ لَهَا: وَمَنْ أنتِ؟
فَقَالَتْ أنا أمُّ الصّبيةِ الّتي أتّتْكَ وَتَركْتَها خَوفَاً مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا أحرَقَكَ اللهُ بِنارِهِ لَا في الدّنيا وَلا في الآخِرَةِ،
قُلْتُ لَهَا: وَمَنْ هيَ يَرحَمُكِ اللهُ؟
فَقَالَتْ: هيَ ابنَتي مِنْ نَسلِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ،
..
فَحِمدْتُ اللهَ عَزّ وَجَلَّ إذْ وَفّقَني وَعَصَمَني
ثُمَّ ذَكَرْتُ قَولَهُ تَعَالَى: ” إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمَ الرِّجسَ أهلَ البَيتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطهيرَاً”
ثُمَّ أفقْتُ مِنْ ذلكَ الوَقتِ لَمْ تَعُدُ عَليَّ نارُ الدُّنيا وَأرجو أنْ لا تَعدو علَيَّ في الآخِرَة.