خبير الموسوعة الفقهية في الكويت
مما قالهُ في فتواهُ – حفظَه اللهُ – بعدَ جملةٍ منَ التقريراتِ الطبيّةِ والفقهيّةِ :
الترجيحُ والاختيارُ :
من استعراضِ ما تقدَّمَ منَ الأدلةِ ننتهي إلى أنَّ التدخينَ ضارٌّ بالصحةِ والاقتصادِ والأخلاقِ ضرراً بالغاً ما فيهِ منْ مصلحة – هذا إنْ ثبت فيهِ بنصِّ المصالحِ وسلّم بها – كما أنَّهُ منَ المفتّراتِ الضعيفةِ والسمومِ ، وإنَّ الإنفاقَ فيهِ تبذيرٌ وإسرافٌ ، وكلُّ ذلكَ ممنوعٌ شرعاً لما تقدّمَ من الأدلّةِ ، وعلى ذلكَ يكونُ التدخينُ ممنوعاً شرعاً ، أما درجةُ المنعِ منهُ أهيَ الحرمةُ أمِ الكراهةُ ، فإنني أرى أنَّها الكراهةُ التحريميّةُ وهي عندَ الإمامِ محمدِ بنِ الحسنِ كالحرمةِ في المرتبةِ ، وعندَ الشيخينِ أبي حنيفة وأبي يوسف دونَ الحرمة في المرتبةِ وإنْ كانتْ قريبةً منها .
ذلكَ أنَّ الحرمةَ لا تثبتُ إلا بالدليلِ القاطعِ دلالةً وثبوتاً ، فإذا ما دخلتِ الظنيةُ الدليل ثبت بهِ الكراهة التحريمية وليس الحرمة ، وإنّني هنا أرى أنَّ ضررَ التدخينِ مظنونٌ راجحٌ وليسَ قاطعاً ، ذلكَ أنّه لمْ يقطعْ فيما أعلمُ حتى الآن بأنَّ التدخينَ سببٌ حتميٌّ لنوعٍ معينٍ من الأمراضِ لا يتخلَّف عنهُ أبداً ، وإنّما هي إحصائياتٌ تشيرُ إلى غلبةِ الظنِّ بأنّه سببٌ لأنواعٍ منَ الأمراضِ تقدّم ذكرُها ، وما كانَ كذلكَ يكونُ مكروهاً تحريمياً وليسَ حراماً ، وكذلكَ ما فيهِ من تفتيرٍ أو سميةٍ فإنَّه ضعيفٌ وقليلُ الخطورةِ المباشرةِ ، أمّا ما فيهِ من تبذير ٍفإنَّ دخولَه فيهِ ليسَ محلَّ الاتفاقِ ، فلا يمكنُ أنْ يقطعَ بشمولِه لهُ ، وإنْ كانَ راجحاً.
فإذا ما ثبتَ للعلماءِ يوماً أنَّ التدخينَ سببٌ قاطعٌ بحصولِ بعضِ الأمراضِ الخطيرةِ لا يتخلفُ عنهُ ، جازَ لنا القطعُ بتحريمِه ، فإنَّ الحكمَ يدورُ مع عِلتهِ وجوداً وعدماً ، ومثلُ التدخينِ في الحكمِ زراعتُه وصناعتُه والاتجارُ فيهِ ، فإنَّ ما أدى إلى الشيءِ يُعطى حكمُه .
لهذا فإنّني أنادي بضرورةِ الإقلاعِ عنِ التدخينِ لكراهتِه التحريميةِ السابقةِ ، ولما فيهِ منْ إلحاقِ الضررِ بالآخرينَ غيرِ المدخنينَ ، وأستنهضُ هممَ أولي الأمرِ من قادةٍ ومنظماتٍ شعبيةٍ ومربّينَ ، ليبذلوا قُصارى جهدهِم في سبيلِ منعِ هذهِ العادةِ السيّئةِ الضارّةِ ، بوضعِ منهاجٍ متدرجٍ يتضمنُ القضاءُ عليها واستئصالُها في نهايةِ المطافِ ، لأنّهُ من بابِ إنكارِ المنكرِ الواجبِ ، وليبدؤوا بمنعِ التدخينَ في مواطنِ التجمعاتِ العامةِ كالمدارسِ والجامعاتِ والمصانعِ ، وكذلكَ في المحلاتِ العامّةِ المغلقةِ كالدوائرِ الرسميّةِ وسياراتِ النقلِ العامِّ بينَ المحافظاتِ ، والطائراتِ ، والبواخرِ ، وهذا وقدْ خطتْ كثيرٌ منَ البلدانِ الراقيةِ المتقدمةِ خطواتٌ حثيثةٌ في هذا المجالِ ، فمنعتِ التدخينَ في المحلّاتِ العامَّةِ والمغلقةِ ، وعاقبَتْ بغراماتٍ وعقوباتٍ شديدةٍ ، وإنّها لخطوةٌ حضاريةٌ جيدةٌ تلكَ التي حَرّمَ بموجبِها المسؤولونَ التدخينَ في سياراتِ النقلِ العامِّ الداخليِّ ، وقد كانَ لهذهِ الخطوةِ أثرٌ طيّبٌ في نفوسِ المواطنينَ ، وكُلّي رجاءٌ أنْ تَتبعَ هذهِ الخطوةَ المباركةَ خطواتٌ أخرى حتى نهايةِ الطريقِ .
ولا بدَّ أنْ أذكّرَ الأخوةَ المدخنينَ بعدَ ما تقدّمَ ، أنَّ الامتناعَ عنِ التّدخينِ في المحلاتِ العامةِ والمغلقةِ دليلٌ على الذوقِ الرفيعِ والمستوى الحضاري المتقدّم ِللإنسانِ ، وأنَّ التدخينَ في مثلِ هذهِ المحلاتِ إضرارٌ بالمدخن ِذاتِه ، وأنّه دليلٌ على التخلّفِ والأنانيّةِ ، ولا أعتقدُ أنّ واحداً ممنْ يحترمُ نفسَه منَ الناسِ يرضى أنْ يصفَه الناسُ بمثلِ ذلكَ ، إنَّ في ذلكَ لذكرى لمنْ كانَ لهُ قلبٌ أو ألقى السّمعَ وهو شهيدٌ ، واللهُ تعالى أعلمُ .