تقول الشبهة بالتفصيل:
وهذهِ الشُّبهةُ هيَ اختلافُ المحّدثيَن في التّوثيقِ والتّضعيفِ .
لقدِ اعتبرَ الطّاعنونَ اختلافَ علماءِ الحديثِ في توثيقِ الرّجالِ وتَضعيفِهم مَطعناً في مَنهَجِهِم، ويَلزَمُ من ذلكَ أنْ يُوَثّقوا منْ لا يَستحِقُّ التّوثيقَ، ويُضعّفُوا مَنْ لا يَستحقُّ التّضعيفَ، وَينتجُ عنهُ تصحيحَ أحاديثٍ لمْ تبلغْ درجةَ الصّحّةَ، وَلذلكَ حَكَموا على كثيرٍ من الأحاديثِ بالصّحّةِ وهيّ لّيسَتْ كذلكَ.
الردُّ على هذهِ الشّبهةِ :
ما وَضعَهُ علماءُ الحديثِ منْ قواعدَ وأصولٍ ثابتةٍ لِتوثيقِ الرّواةِ وتَضعيفِهم يَنفي ما قالُوا، ولمْ ينطلِقُوا رَحمَهُم اللهُ في تعديلِ الرّواةِ وَتجريحِهِم منْ هوىً، وإنَّما كانُوا يَفعلونَ ذلكَ حسبةً للهِ وتَديّناً، ولِذلكَ كَثُرَ قَولُهُم: “إنَّ هذا العلمَ دينٌ فانظرُوا عَمَّنْ تأخذونَ دينَكُم”.
ولقدْ قامَ علمٌ عظيمٌ وُضِعَتْ لهُ القواعدُ وأسِّسَتْ لهُ الأسُسُ، وجُعِلَ مقياساً دقيقاً ضُبِطَتْ بهِ أحوالُ الرّواةِ منْ حيث التّوثيقِ والتَّضعيفِ، ذلكَ “علمُ الجَرْحِ والتّعديلِ” الّذي لا نظيرَ لهُ عندَ أمَّةٍ منَ الأمَمِ.
والّذي يُطالعُ كتبَ علومِ الحديثِ يقفُ مَبهوراً أمامَ هذا العلمِ فائقِ الدِّقَّةِ، البالِغِ الإحكامِ، الّذي لا يُمكن ُأنْ يكونَ وُضِعَ صُدفةً أو جاءَ عَفواً، وإنَّما بُذِلَتْ فيهِ جهودٌ، وَتعبَتْ فيهِ أجسامٌ، وسَهرَتْ فيهِ أعينٌ حتَّى بلغَ إلى قمَّةِ الحُسنِ ومُنتهى الجودَةِ.
وَنتناولُ منْ هذا العلمِ ثلاثةَ أسئلةٍ يتّضحُ منْ خِلالِها فَسادُ هذا الزّعمِ وبطلانَهُ.
أوّلاً: مَنْ هوَ الرّاوي الذي يُقبَلُ حديثُهُ؟
ثانياً: كيفَ يُوثّقُ؟.
ثالثاً: إذا تعَارَضَ فيهِ توثيقٌ وتضعيفٌ، ما العملُ إذاً؟ وما الّذي أدَّى إلى ذلكَ؟.
والجوابُ على هذه الأسئلةِ:
أوّلاً: لقدْ نصَّ عُلماءُ الحديثِ على صفاتٍ مُعيّنةٍ متَى تَوفّرتْ تِلكَ الصّفاتُ في شخصٍ معيّنٍ قُبِلَتْ رِوايَتُهُ واحتُجَّ بِحديثِهِ.
قالَ ابنُ الصّلاحِ – رَحمهُ اللهُ: “وأجمعَ جماهيرُ أئمّةِ الحديثِ والفِقهِ على أنَّهُ يُشتَرَطُ فيمنْ يُحتَجُّ بِروايَتِهِ أنْ يكونَ عَدْلاً ضابطاً لما يَرويهِ. وتفصيلُهُ أنْ يكونَ مُسلماً بالغاً عاقلاً، سالماً منْ أسبابِ الفسقِ وخَوارمِ المروءةِ، مُتيقّظاً غيرَ مغفلٍ، حافظاً إنْ حدّثَ منْ حِفْظِهِ، ضابطاً لِكتابِهِ إنْ حدَّثَ منْ كتابِهِ، وإنْ كانَ يُحدّثُ بالمعنى اشتُرِطَ فيهِ معَ ذلكَ أنْ يَكونَ عالماً بما يحيلُ المعاني”.
فهذا هوَ الثّقةُ الذي تُقبَلُ روايَتُهُ، وهوَ الذي جَمعَ بينَ شرطَي العدالةِ والضّبطِ. ثانياً: يوثقُ الرّاوي إذا ثَبتَتْ عدَالَتُهُ بالاستفاضةِ، أو باشتهارِهِ بينَ أهلِ العلمِ بالثّناءِ والخيرِ، أو بتعديلِ عالمٍ أو أكثرَ، وثبتَ ضَبطُهُ بموافقةِ روايتِهِ للثّقاتِ المتقنينَ في الغالبِ.
ويقبلُ تعديلُ الرّاوي ولو لمْ يَذكرْ سببُهُ وذلكَ لكَثرَةِ أسباب ِالتّعديلِ ومشقّةِ ذِكرِها.
وأمّا جرحُهُ فلا يُقبلُ إلا إذا بيّنَ سببَهُ؛ لأنَّ الجرحَ يحصلُ بأمرٍ واحدٍ، ولا مشقّةَ في ذكرِهِ، إضافةً إلى اختلافِ النّاسِ في أسبابهِ.
ثالثاً: إذا تعارضَ جرحٌ وتعديلٌ في راوٍ معيّنٍ قُدّمَ الجرحُ إذا كان مُفسّراً ولو زادَ عددُ المعدّلينَ، وعلى ذلك جمهورُ العلماءِ؛ لأنَّ معَ الجارحِ زيادةُ علمٍ خَفيَتْ عنِ المعدّلِ، فالمعدّلُ يخبرُ عنْ ظاهرِ حالِ الرّاوي، والمجروحُ يخبرُ عنْ أمرٍ باطنٍ، وهذا شرطٌ مهمٌّ؛ فإنَّهم لمْ يَقبلُوا الجرحَ إذا تعارضَ معَ التّعديلِ إلَّا إذا كان مُفسّراً، وهذا ما استقرَّ عليهِ الاصطلاحُ.
يقولُ الدّكتورُ نورُ الدّينِ عتر:
“لكنَّ هذهِ القاعدةَ ليسَتْ على إطلاقِها في تقديمِ الجرحِ، فقدْ وجدناهمْ يقدّمون التّعديلَ على الجرحِ في مواطِنَ كثيرةٍ، ويمكننا أنْ نقولَ: إنَّ القاعدةَ مُقيّدةٌ بالشّروطِ الآتيةِ:
1ـ أنْ يكونَ الجرحُ مفسراً، مستوفياً لسائرِ الشّروطِ.
2ـ ألَّا يكونَ الجارحُ مُتعصّباً على المجروحِ أو مُتعنّتاً في جَرحِهِ.
3ـ أنْ يُبيّن المعدّل ُأنَّ الجرحَ مَدفوعٌ عنِ الرّاوي، وَيثبتُ ذلكَ بالدّليلِ الصّحيحِ.
وهذا يدلُّ على أنَّ اختلافَ ملحظِ النّقّادِ يؤدّي إلى اختلافِهمْ في الجرحِ والتّعديلِ، لذلكَ قالَ الذّهبيّ وهوَ من أهلِ الاستقراءِ التّامّ في نقدِ الرّجالِ: “لمْ يجتمعْ اثنانِ من علماءِ هذا الشّأنِ قطُّ على توثيقِ ضعيفٍ ولا على تضعيفِ ثِقَةٍ”. وهذا؛ لأنَّ الثّقةَ إذا ضَعُفّ يكونُ ذلكَ بالنّظرِ لِسببٍ غيرِ قادحٍ، والضّعيفُ إذا وثّقَ يكونُ توثيقُهُ منَ الأخذِ بمجرّدِ الظّاهرِ.
وقال َالحافظُ بنُ حجرٍ: “والجرْحُ مقدّمٌ على التّعديلِ، وأطلقَ ذلكَ جماعة، ولكنْ محلّهُ إنْ صدرَ مبيناً منْ عارفٍ بأسبابِهِ؛ لأنَّهُ إنْ كانَ غيرَ مفسّر ٍلمْ يقدّمْ فيمنْ ثبتَتْ عدالَتهُ، وإنْ صدرَ من ْغيرِ عارفٍ بالأسبابِ لم يعتبْر بهِ أيضاً، فإنْ خلا المجروحُ عنْ تعديلٍ قُبِلَ الجرحُ فيهِ مُجمَلاً غَيرَ مبيّنٍ السّببَ إذا صدرَ منْ عارفٍ على المختارِ؛ لأنَّهُ إذا لمْ يكنْ فيهِ تعديلٌ فهوَ في حيّزِ المجهولِ، وإعمالُ قولِ المجروحِ أولى منْ إهمالهِ”.
كما أنّهُ يجبُ أنْ يُراعَى عندَ الاختلافِ حالُ المعدّلِ والمجرحِ؛ لأنَّ ذلكَ منَ القرائنِ التي يُرجّحُ بها عندَ الاختلافِ في التّوثيقِ والتّضعيفِ.
قالَ الإمامُ الذّهبيّ مبيّناً أقسامَ المتكلّمينَ في الرّجالِ منْ حيثِ التّعنّتِ والتوسّط ِوالاعتدالِ في الجرحِ والتّعديلِ:
1ـ قسمٌ منْهمْ متعنّتٌ في الجرحِ، متثبّتٌ في التّعديلِ، يغمزُ الرّاوي بالغلطتَينِ والثّلاثِ، ويلينُ بذلكَ حديثُهُ، وهذا إذا وثقَ شخصاً فعضَّ على قولِهِ بنَواجِذِكَ، وتمسّكْ بتَوثيقِهِ، وإذا ضعفَ رجلاً فانظرْ هلْ وافقَهُ غيرُهُ على تضعيفِهِ، فإنْ وافقَهُ، ولمْ يوثّقْ ذاكَ أحدٌ منَ الحذّاقِ، فهوَ ضعيفٌ، وإنْ وثّقَهُ أحدٌ فهذا الذي قالُوا فيهِ: لا يُقبَلُ تجريحُهُ إلا مفسّراً، يعني لا يَكفي أنْ يقولَ فيهِ ابنُ معينٍ مثلاً: هوَ ضعيفٌ، ولمْ يوضّح ْسببَ ضعفِهِ، وغيرُهُ قدْ وثّقَهُ، فمثلُ هذا يتوقّف في تصحيحِ حديثِهِ، وهوَ إلى الحسَنِ أقربُ. وابنُ معينٍ وأبو حاتمٍ والجوزجانيّ متعنّتونَ.
2ـ وقسمٌ في مقابلةِ هؤلاءِ، كأبي عيسى الترمذيّ، وأبي عبدِ اللهِ الحاكم، وأبي بكرٍ البيهقيّ: متساهلونَ.
3ـ وقسمٌ كالبخاريّ، وأحمدُ بنُ حنبلَ، وأبي زرعةَ، وابنُ عديّ: مُعتدِلونَ منصِفونَ.
وبعدُ فعلماءُ الحديثِ لمْ يَنطلقُوا في تَوثيقِهِم وتجريحِهِم، وتصحيحِهِم وتضعيفِهم من خواءٍ وتخبّطٍ، وإنّما انطلقُوا منْ قواعدَ متينةٍ وأرضٍ صلبةٍ، في أحكامِهِم؛ وَلذلكَ برزَتْ هذهِ الأحكامُ إلى الوجودِ في مُنتهى الدّقّةِ، متفّقةً فيما بينها، متّحدةً لا شذوذَ فيها، منسجمةً لا تباينَ يعتريها، ويَعجزُ كلُّ دعيّ أنْ ينقدَ ما أصّلوهُ بنقدٍ علميّ لا مطعنَ فيهِ، وبحكمٍ لا قادحَ فيهِ.
وهذهِ شهادةُ أحدُ المستشرقِينَ أنفسُهم ينقُلُها الدُّكتورُ نورُالدّينِ عتر في هذهِ المسألةِ وهوَ (ليوبولد فايس) قالَ: “إنَّنا نتخطَّى نطاقَ هذا الكتابِ إذا نحنُ أسهبْنَا في الكَلامِ على وجهِ التَّفصيلِ في الأسلوبِ الدَّقيقِ الّذي كانَ المحدِّثونَ الأوائلُ يستعملونَهُ للتثبُّتِ من صحةِ كلِّ حديثٍ، ويَكفي من أجلِ مَا نحنُ هنا بصددِهِ أن نقولَ: إنَّهُ نشأَ من ذلكَ علمٌ تامُّ الفُروعِ، غايتُهُ الوحيدةُ البحثُ في معاني أحاديثِ الرَّسولِ، وشكلِهَا، وطريقةِ رِوايتِهَا.
ولقدِ استَطاعَ هذا العلمُ في النَّاحيةِ التَّاريخيّةِ أن يوجدَ سلسلةً متماسكةً لتراجِمَ مفصَّلةٍ لجميعِ الأشخاصِ الّذينَ ذكروا عن أنَّهم رواةٌ أو محدثونَ، إنَّ تراجِمَ هؤلاءِ الرِّجالِ والنِّساءِ قَد خضَعَتْ لبحثٍ دقيقٍ من كلِّ ناحيةٍ، ولم يعُد منهم في الثِّقاتِ إلّا أولئكَ الّذينَ كانَت حياتُهم وطريقةُ روايتِهم للحديثِ تتَّفقُ تماماً معَ القواعدِ الّتي وضَعَها المحِّدثونَ، تلكَ القواعدُ الّتي تعتبرُ على أشدِّ مَا يمكنُ أن يكونَ منَ الدّقةِ. فإذا اعترضَ أحدٌ اليومَ من أجلِ ذلكَ على صحَّةِ حديثٍ بعينِهِ أو عَلى الحديثِ جُملةً، فإنَّ عليهِ هوَ وحدَهُ أن يُثبتَ ذلكَ”.