تقول الشبهةُ بالتَّفصيلِ:
خلاصةُ هذهِ الشُّبهةِ قولُهم: إنَّ السنَّةَ لمْ تكنْ شرعاً عندَ النّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ولم يقصُدِ النَّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم أنْ تكونَ سنَّتُهُ مَصدراً تشريعيَّاً للدِّينِ وما قالَ شَيئاً أو فعلَهُ بقصْدِ التَّشريعِ ولم يُرِدِ النَّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في حياتِهِ أنْ يكونَ ثمَّةُ مصدرٍ تشريعيٍّ سوى القرآنِ المَجيدِ بل كانَ مصدرُ التّشريعِ عندَ الرّسولِ صلّى اللهِ عليهِ وسلّمَ هوَ القرآنُ وحدهُ وكذلكَ فهمَ الصَّحابةُ رضوانُ اللهُ عليهم وجاءَ عهدُ التّابعينَ الّذي بدأتْ فيهِ فتنةُ القولِ بالسنَّةِ وأنّها مصدرٌ من مصادرِ التَّشريعِ وكانَتْ تلكَ قاصمةَ الظَّهرِ بالنِّسبةِ للدِّينِ، حيثُ دخلَ فيهِ ما ليسَ منهُ واختلَطَ بالوحيِ الصَّحيحِ الخالصِ الّذي هوَ القرآنُ ما ليسَ مِنَ الوَحيِ، بلْ هوَ كلامُ البَشَرِ الّذي هو السنَّةُ النبويَّةُ وهُم يزعُمونَ أنَّ لهم أدلةً على ذلِكَ وهِيَ :
1.أنَّ النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قد أمرَ أصحابَهُ بكتابَةِ القُرآنِ الكَريمِ وحضَّهم على ذلكَ ونَهَى أصحابَهُ عن كتابةِ شيءٍ مِنَ السُّنةِ قَولاً كَانتْ أو فِعْلاً وذلكَ قولُهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم : ( لا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ) رواه مسلم
الردُّ على الشُّبهةِ وتفنيدِها :
يمكنُ أنْ نرُدَّ على هذهِ الشُّبهةِ في عدةِ نقاطٍ :
1.أمّا قولُهم بأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم نَهى عنْ كتابَةِ الحديثِ بينما حضَّ على كتابَةِ القرآنِ وحِفظهِ وكانَ لهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كتبةٌ للقرآنِ، فقولٌ مُبالغٌ فيهِ ويَقومُ على التَّدليسِ وذكرِ بعضِ الحقِّ وإخفاءِ البعضِ، ولَيسَ مِن شكٍّ في أنَّ القُرآنَ المجيدَ قَد لَقِيَ مِنَ العِنَايَةِ بكتابَتِهِ وحفْظِهِ مَا لَم يَكُن للسُّنَّةِ النَّبويّةِ فهَوُ مصدرُ الدّينِ الأوَّلِ، وهوَ أَعلى منَ السنَّةِ منزلَةً وقَدَاسَةً وهوَ أحقُّ بالعِنَايةِ والاهتمامِ بكِتابَتِهِ وحِفظِهِ لِذلكَ حَظِيَ القرآنُ منَ العِنَايةِ بما لَم تَحظَ بِهِ السّنةُ، وبخاصةٍ بتدوينِها وكِتابتِهَا، والأسبابُ الّتي جعلتِ الصَّحابَةَ يهتمُّونَ بكتابةِ القُرآنِ فوقَ اهتمامِهِم بكتابةِ السُّنةِ كثيرةٌ. منها : أنَّ القرآنَ الكريمَ مَحدودٌ بحدودِ مَا ينزلُ بِهِ جبريلُ على قلبِ النّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم فكتابَتُهُ والإحاطةُ بهِ أيسرُ وهم على ذلكَ أقدرُ أمَّا السنَّةُ النبويَّةُ من أقوالِ الرّسولِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم وأفعالِهِ فكثيرةٌ ومتشعِّبةٌ تتضمَّنُ أقوالَهُ عليهِ السَّلامُ وأفعالَهُ اليوميَّةً وعلى مَدى ثلاثٍ وعشرينَ سنةً عاشَهَا صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم بينَهُم وهذا أمرٌ يشقُّ كتابتُهُ وتدوينُهُ وبخاصةٍ إذا أخذْنَا فِي الاعتبارِ ندرةَ أو قلَّةَ الكاتبينَ بينَ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم ومنها : أنَّ كتابةَ القرآنِ ضرورةٌ يفرضها ويحتمُهَا كونُ القرآنِ العظيمِ وحيُ اللهِ تَعالى إلى النّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بلفظِهِ ومَعناهُ ولا تَجوزُ روايتُهُ بالمعنى، أمَّا السنَّةُ فتجوزُ روايتُهَا بالمعنى ويجوزُ في السَّنةِ أنْ يَقولَ القائلُ : ” أو كَمَا قالَ ” ومَا هُوَ من قبيلِها ولَيسَ ذلكَ جَائزاً في القرآنِ ومِنْها : أنَّ الكاتبينَ بينَ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم كانوا قلَّةً وليسَ في مَقدورِهم أنْ يَكتبوا السنَّةَ والقرآنَ مَعَاً، وإذا كانَ ثمةَ اختيارٍ بينَ أيِّهما يكتبُ الصَّحابةُ العارفونَ الكتابةَ فليكنِ المكتوبُ هو القرآنُ وذلكَ حتَّى يسلِّموهُ لمنْ بعدهم محرَّراً مَضبوطاً تامّاً لم يزدْ فيهِ ولم ينقصْ منهُ حرفٌ.
وأمَّا احتجاجُهُم بأنَّ الرَّسولَ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ نَهَى عن كتابةِ غَيرِ القرآنِ، وهوَ السنَّةُ فهوَ احتجاجٌ باطلٌ من وجوهٍ. أولُها:
أنَّ هذا الحديثَ الذي رواهُ مسلمٌ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ وهَوُ قولُ الرسولِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم : ( لا تَكتبُوا عنّي، ومَـنْ كتبَ عنّي غيرَ القرآن ِفليمْحُهُ ). هذا الحديثُ معلولٌ أعلَّه أميرُ المؤمنينَ في الحديثِ، أبو عبدِ اللهِ البُخاريّ وغيرُه بالوقفِ على أبي سَعيدٍ. ولو صرفْنَا نَظَراً عن هذا فإنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كمَا نهى عنِ الكتابَةِ، فَقد وَرَدَ عنهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الإذنُ بها بلِ الأمرُ بها في أحاديثٍ أخرى، ولذلكَ قلْنَا إنَّ استدلالَهُم فيهِ تدليسٌ حيثُ ذكروا حديثَ النَّهيِ ولم يُشيرُوا إلى أحاديثِ الإذنِ وهِيَ كثيرةٌ منها: أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم خطبَ يومَ الفتحِ فقالَ “إنَّ اللهَ حبَسَ عنْ مكَّةَ القتْلَ أوِ الفِيلَ -الشكُّ مِنَ البُخاريِّ- وسلَّط َعليهم رسولَ اللهِ والمؤمنين…” ولما انتَهى مِن خطبتِهِ جاءَ رجلٌ من أهلِ اليَمنِ فقالَ: اكتبْ لي يَا رسولَ اللهِ فقالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ( اكتبُوا لأبي شَاة )
ومنها : ما رُوِيَ عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: “ما كانَ أحدٌ أعلمَ بحديثِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم منّي إلا عبدُ اللهِ بنُ عمرو فقد كانَ يكتبُ ولا أكتبُ. ومن ذلكَ ما رُويَ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ الله عنهمَا أنَّ بعضَ الصَّحابةِ حدَّثهُ فقالَ : إنَّك تكتبُ عن رسولِ اللهِ كلَّ مَا يقولُ ورسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم – بشرٌ يغضبُ فيقولُ ما لا يَكونُ شَرعَاً، فرجعَ عبدُ اللهِ إلى رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ فأخبرَهُ بما قيلَ لهُ، فقالَ لهُ الرسولُ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (اكتُب فوالَّذي نَفسي بيدِهِ ما خرجَ منهُ إلَّا حقٌ) رواه الإمامُ أحمدُ. وهذهِ الرّواياتِ في الصَّحيحِ وهناكَ غيرهَا ضعيفٌ وهي َكثيرةٌ فإذا ما وازنَّا بينَ رواياتِ المنعِ ورواياتِ الإذنِ وجدْنَا أبَا بكرٍ الخطيبَ رحمهُ اللهُ (ت463هـ ) قد جمعَ رواياتِ المنعِ فلم يصحَّ منها إلّا حديثُ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضيَ اللهُ عنهُ السَّابقُ ذكرُهُ، وقد بيَّنَّا أنَّ الإمامَ أبا عبدِ اللهِ البُخاريِّ قد أعلَّه بالوقفِ على أبي سعيدٍ وكذلكَ فعلَ غيرُهُ، بينَما أحاديثُ الإذنِ كثيرةٌ والصَّحيحُ منها كثيرٌ روينَا بعضَهُ ومنها: إضافةً إلى ما سبقَ أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم قالَ في مرضِ مَوتِهِ: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ، أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَداً ) متفق عليه.
وَقَدِ اجتهدَ العلماءُ في الجمعِ بينَ أحاديثِ الإذنِ وأحاديثِ المنعِ، فنتجَ عن ذلكَ آراءٌ أهمُّها :
ب.أنَّ النهيَ لم يكن مُطلقاً، بل كانَ عن كتابةِ الحديثِ والقرآنِ في صَحيفةٍ واحدةٍ أمّا في صحيفتَينِ فمأذونٌ بهِ.
ج.أنَّ الإذنَ جاءَ لبعضِ الصحابةِ الذينَ كانُوا يكتبونَ لأنفسِهِم، ويؤمَنُ عليهم الخلطُ بينَ القُرآنِ والسنةِ.
وهناكَ آراءٌ غيرُ ذلكَ لكن الذي يتَّضحُ من رواياتِ المنعِ ورواياتِ الإذنِ أنَّ الإذنَ جاءَ آخراً فإن كان نسخٌ فهوَ النَّاسخُ للمنعِ وهذا الّذي رواهُ الجمهورُ.
وبهذا يَسقُطُ استدلالُهم بحديثِ المنعِ الّذي رواهُ مسلمٌ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضيَ اللهُ عنهُ، هذا الحديثُ الذي يعدّونَه حجرَ الزَّاويةِ في احتجاجهم بعدَمِ تشريعيَّةِ أو حُجيَّةِ السُّنةِ ويُكثِرونَ اللّجاجَ بهِ.
2.أمَّا قولهُم إنَّ الصَّحابةَ رضوانُ اللهِ عليهمْ قد فَهِموا منَ النّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ السنةَ ليسَتْ شرعَاً، فانصَرَفُوا عنها ولم يهتمُّوا بكتابتِهَا أو الالتزامِ بها فهذا من الكذبِ والمكابرةِ، والمطَّلعِ على المدوَّنات في كتبِ السنةِ وتاريخِ العلومِ وما كتبَ العلماءُ في مواقفِ الأمَّةِ المسلِمَةِ من سنَّةِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وبخاصةٍ موقفُ الصَّحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم من سنّةِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، يَقطعُ بكذبِ هؤلاءِ ويعجَبُ من مدى تبجُّحِهِم وافترائِهِم على الحقِّ إلى حدِّ قلبِ الأوضاعِ وعكْسِ الأمورِ. فقد كانَ أصحابُ رسولِ اللهِ – صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – أحرصَ الخلْقِ على مُلاحظةِ أقوالِ رسولِ اللهِ – صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ -وأفعالِهِ وحفظِها والعملِ بها، بل بلغَ من حرصهم على تتبُّعِ كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ وحفظِهَا ووعيِهَا والعملِ بِها أنْ كانوا يتناوَبُونَ مُلازَمَةَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فهذا عمرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنهُ يحدِّثُ عنهُ البخاريُّ بسندِهِ المتَّصلِ إليهِ، يقولُ: ” كنتُ وجارٌ لي مِنَ الأنصارِ في بني أميَّةَ بنِ زيدٍ من عوالي المدينةِ – وكنَّا نتناوبُ النّزولَ على رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، ينزلُ يوماً وأنزلُ يَوماً فإذا نـزلْتُ جئتُهُ بخبرِ ذلكَ اليومِ وإذا نزلَ فعلَ مثلَ ذلكَ” ومَا كانَ ذلكَ إلا لحرصهِم الشَّديدِ على معرفةِ سنةِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم واتّباعِهَا والالتزامِ بها …
وقد كانَ الصَّحابةُ يقطعونَ المسافاتِ الطَّويلةَ ليسألوا رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن حُكمِ اللهِ في بعضِ مَا يعرضُ لهم، يروي البخاريُّ عن عقبةَ بنِ الحارثِ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ امرأةً أخبرتْهُ أنّها أرضعَتْه هو وزوجُهُ فركبَ من فَورهِ من مكَّةَ إلى رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بالمدينةِ فلمَّا بلغَ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سألهُ عن حُكمِ اللهِ فيمَنْ تزوَّجَ امرأةً لا يعلمُ أنَّها أختهُ منَ الرَّضاعِ ثمَّ أخبرتْهُ بذلكَ مَنْ أرضعتْهُما ؟ فقالَ لهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ (كيفَ وقد قِيلَ ؟ ) ففارقَ زوجَهُ لوقتهِ وتزوَّجتْ بغيرهِ ..
وكانَ الصَّحابةُ رضيَ اللهُ عنهم حريصينَ عَلى أن يسألوا أزواجَ النّبي رضوانُ اللهِ عليهنَّ عن سيرَتِه وسنتِهِ في بيتِهِ، وكانت النساءُ يذهبْنَ إلى بيوتِ أزواجِ النّبيِّ يسألنَهنَّ عمّا يعرضُ لهنَّ وهذا معروفٌ مشتهرٌ غنيٌّ عن ذكرِ شاهدٍ أو مثالٍ.
بل لقد بلغَ من حرصِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم على الالتزامِ بسنةِ النّبيِّ – صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنهم كانوا يلتزمونَ ما يفعلُ ويتركونَ ما يتركُ دونَ أن يعرفوا لذلكَ حكمةً، ودونَ أن يسألوا عن ذلكَ، ثقةً منهم بأنَّ فعلهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم وحيٌ، فقد أخرجَ البخاريُّ في صحيحهِ عن ابنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما قالَ: ” اتَّخذَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم خاتماً من ذهبٍ فاتَّخذَ النَّاسُ خواتيمَ من ذهبٍ ثمَّ نبذَهُ النّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وقالَ: ( إنّي لن ألبسَهُ أبداً ) فنبذَ الناسُ خواتيمَهم “.
وروى القاضي عياض في كتابهِ ” الشفا ” عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: “بَيْنَا هُوَ قَائِمٌ إِذْ وَضَعَ نَعْلَيْهِ عَلَى يَسَارِهِ ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ ذَلِكَ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ ، قَالَ : مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ ؟ قَالُوا : رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ فَأَلْقَيْنَا ، قَالَ : إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي ، أَنَّ فِيهِمَا أَذًى “.
وأورد ابن عبد البر في “ جامعِ بيانِ العلمِ وفضلِهِ ” عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: لَمَّا اسْتَوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَالَ: «اجْلِسُوا»، فَسَمِعَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَجَلَسَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ»
إلى هذا الحدِّ بلغَ حرصُ الصَّحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم على معرفةِ سنَّةِ النَّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم في جميعِ أحوالِهِ والالتزامِ بها والاستجابةِ لأمرهِ ونهيهِ من فورِهم، كما فعلَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ ومن غيرِ أن يُدركوا حكمةَ الفعلِ كما في إلقائِهِم نعالَهم في الصّلاةِ ونبذهم خواتيمَ الذَّهبِ ولم يكنْ ذلكَ إلّا استجابةً للهِ تعالى في أمرهِ بطاعةِ رسولهِ – صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- والاقتداءِ بهِ كما في قولهِ عزَّ وجلَّ :{لقد كانَ لكمْ في رسولِ اللهِ أسوةٌ حسنَةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللهَ واليومَ الآخرَ وذكرَ اللهَ كثيراً}(26) ثم استجابةً لرسولهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم في أمرهِ الأمَّةَ باتباعِ سنتِهِ والالتزامِ بها كما في قوله صلى الله عليهِ وسلّم : ( خذوا عنِّي مناسِكَكُمْ ) مسند الإمام أحمد بن حنبل (27) وقولِه ِعليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : [صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي] السنن الكبرى البيهقي (28). وقولُهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : [كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى] [ص:93] صحيح البخاري وقوله صلى الله عليه وسلم [أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة] سنن أبي داود
هذا قليلٌ من كثيرٍ ممَّا يبيِّنُ موقفَ الصَّحابةِ رضوانُ اللهِ عليهِم من سنةِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وهوَ موقفٌ يتَّسمُ بالحرصِ الشَّديدِ والاهتمامِ البالغِ على معرفةِ سنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وحفظِهَا والالتزامِ بها، بل وتبليغِهَا إلى من يسمَعُها استجابةً لقولِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : (نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي، فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ). رواه الإمام أحمد بن حنبل
ومِن هذا يتبيَّنُ مَدَى كذبِ أعداءِ السُّنَّةِ وأعداءِ اللهِ ورسولِهِ في ادِّعائِهِم الّذي سلَفَ ذكرُهُ.
3-وأمَّا دعواهُم بأنَّ كبارَ الصَّحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم كانُوا يكرهونَ روايةَ الحديثِ وكانَ عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ يتهدَّدُ رواةَ السنَّةَ وأنَّهُ نفَّذَ وعيدَهُ فحبَسَ ثلاثةً من الصحابةِ بسببِ إكثارِهم مِن رِوايةِ السُّنَّةِ فهذا كذبٌ يُضافُ إلى ما سبقَ من دعاواهُم الكاذبةِ، وفيه جانبٌ من التَّدليسِ الّذي لا يخلو عنهُ كلامُهم.
أمَّا أنَّ الصَّحابةَ رضوانُ اللهِ عليهم كانوا يكرهونَ روايةَ الحديثِ فهذا باطلٌ، والحقُّ أنّهم كانُوا يَخشَونَ روايتَها ويهابُونَ مِن ذلكَ لِعِظَمِ المسؤوليّةِ ووعيدِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم على من يكذِبُ عليهِ في قولهِ عليهِ السَّلامُ [مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ] رواه مسلم، ولقد كانَ الصّحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم بينَ أمرَينِ هم حريصُونَ على كلٍّ منهُما أوَّلهمَا : تبليغُ دينِ اللهِ إلى مَن يليهم من الأمَّةِ، ثانيهما : التَّثبتُ والتحرِّي الشديدُ لكلِّ ما يبلِّغونَهُ عن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لذلكَ كانَ الواحدُ منهم يمتقعُ وجههُ، وتأخذُهُ الرَّهبةُ وهوَ يروي عن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فالصَّوابُ إذن أنَّ الصّحابةَ كانُوا يهابُونَ روايةَ الحديثِ بسببِ شدَّةِ خَوفهم منَ الكذبِ على رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أوِ الخطأِ فيمَا يَروونَ وليسَ كما يزعمُ هَؤلاءِ أنَّ ذلكَ لأنَّهم كانُوا يرونَ السُّنَّةَ غيرَ شرعيَّةٍ أو أنَّها ليسَت مصدراً تشريعيَّاً.
أمَّا دعوَى حبسِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ ثلاثةً من أصحابِهِ هُم : عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، وأبو ذرٍّ، وأبو الدَّرداءِ رضيَ اللهُ عنهم، فهذهِ رواية ٌملفَّقةٌ كاذبةٌ جرَتْ على الألسِنَةِ، وقد ذكرَها البعضُ كما تجري على الألسنةِ وتُدوَّنُ في كتبِ الموضوعاتِ مِنَ الأحاديثِ والوَقائعِ، فليسَ كلُّ ما تجري بِهِ الألسنةُ أو تتضمَّنُهُ بعضُ الكتبِ صَحيحاً وقد تولَّى تمحيصَ هذهِ الدَّعوى الكاذبةِ الإمامُ ” ابنُ حزمٍ ” رحمهُ اللهُ في كتابهِ: الإحكامُ فقالَ :(ورُوِيَ عن عمرَ أنَّهُ حبسَ ابنَ مَسعودٍ، وأبَا الدَّرداءِ وأبَا ذرٍّ من أجلِ الحديثِ عن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم وبعدَ أن طعَنَ ابنُ حزمٍ في الرِّوايةِ بالانقطاعِ محصَهَا شَرعاً فقالَ: إنَّ الخبرَ في نفسِهِ ظاهرُ الكَذِبِ والتَّوليدِ لأنَّه لَا يخلُو: إمَّا أنْ يكونَ عمرُ اتَّهمَ الصَّحابةَ وفي هذا مَا فيهِ أو يكونُ نَهى عن نفسِ الحديثِ وتبليغِ السُّنةِ وألزمَهُم كِتمانَهَا وعدمَ تبلِيغِها، وهذا خروجٌ عنِ الإسلامِ وقد أعاذَ اللهُ أميرَ المؤمنينَ من كلِّ ذلكَ، وهذا قولٌ لا يقولُ بهِ مسلمٌ ولئن كانَ حَبَسهُم وهم غيرُ متَّهمينَ فلقد ظَلَمهم، فليخترِ المُحتجُّ لمذهبِهِ الفاسدِ بمثلِ هذهِ الرواياتِ أيَّ الطريقينَ الخَبيثينَ شاءَ ” .