الشبهة وردها بالفصيل:
الحجابُ تزمّتٌ والدّينُ يسرٌ:
الشبهةُ:
يدّعي بعضُ دُعاةِ التّبرّجِ والسّفورِ بأنَّ الحجابَ تزمُّتٌ في الدّينِ، والدّينُيُسرٌ لا تزمّتَ فيهِ ولا تَشدُّدَ، وإباحةُ السّفورِ مصلحةٌ تقتضيها مشقّةُ التزامِ الحجابِ في عصرنا
الرد:
1- إنَّ تعاليمَ الدّينِ الإسلاميِّ وتكاليفَهُ الشّرعيَّةَ جميعَها يسرٌ لا عسرَ فيها، قال تعالى: {يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:232]. فهذه الآياتُ صريحةٌ في التزامِ مبدأ التّخفيفِ والتّيسيرِ على النّاسِ في أحكامِ الشَّرعِ.
وعن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((إنَّ هذا الدّينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدّينَ أحدٌ إلا غَلَبَهُ، فسدّدوا وقاربُوا وأبشِروا)) [2] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: الدين يسر (39).وعن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ إذا بعثَ أحداً مِن أصحابِهِ في بعضِ أمرِهِ قالَ: ((بشِّروا ولا تُنفِّرُوا، ويَسِّرُوا ولا تُعسِّرُوا)) [3] أخرجه مسلم في الجهاد (1732).
فالشّارعُ لا يَقصُدُ أبدًا إعناتَ المكلَّفينَ أو تَكليفهم بما لا تُطيقُهُ أَنفُسُهم، فكلُّ ما ثبتَ أنَّهُ تكليفٌ منَ اللهِ للعبادِ فهوَ داخلٌ في مقدورِهم وطاقَتِهم
2- ثمَّ لا بدَّ من معرفةِ أنَّ للمصلحةِ الشّرعيَّةِ ضوابطٌ يجبُ مُراعاتُها وهي:
أ- أن تكونَ هذهِ المصلحةُ مندرجَةٌ في مقاصِدِ الشَّرعِ، وهيَ حفظُ الدّينِ والنَّفسِ والعقلِ والنَّسلِ والمالِ، فكلُّ ما يَحفظُ هذهِ الأصولَ الخمسةَ فهوَ مصلحةٌ، وكلُّ ما يفوِّتُ هذهِ الأُصولَ أو بعضَها فهو مَفسدةٌ، ولا شكَّ أنَّ الحجابَ ممَّا يحفَظُ هذهِ الكليَّاتِ وأنَّ التَّبرُّجَ والسُّفورَ يؤدِّي بها إلى الفَسادِ.
ب- أن لا تُعارضَ هذهِ المصلحةُ النَّقلَ الصّحيحَ، فلا تُعارضَ القرآنَ الكريمَ؛ لأنَّ معرفةَ المقاصدِ الشّرعيَّةِ إنّما تمَّ استنادًا إلى الأحكامِ الشّرعيَّةِ المنبثقةِ من أدلَّتها التَّفصيليَّةِ، والأدلةُ كلُّها راجعةٌ إلى الكتابِ، فلَو عارضَتْ المصلحةُ كتابَ اللهِ لاستلزمَ ذلكَ أن يُعارضَ المدلولُ دليلَهُ، وهو باطلٌ. وكذلكَ بالنسبةِ للسنَّةِ، فإنَّ المصلحةَ المزعومةَ إذا عارضتها اعتُبرت رأيًا مذمومًا. ولا يخفى مُناقضةُ هذهِ المصلحةِ المزعومةِ لنصوصِ الكتابِ والسّنةِ.
ج- أن لا تُعارضَ هذهِ المصلحةُ القياسَ الصَّحيحَ.
د- أن لا تُفوِّتَ هذهِ المصلحةُ مصلحةً أهمَّ منها أو مساويةً لها.
3- قاعدة: “المشقّةُ تجلبُ التيسيرَ” معناها: أنّ المشقَّةَ التي قد يجدها المكلَّفُ في تنفيذِ الحُكمِ الشَّرعيِّ سببٌ شرعيٌّ صحيحٌ للتخفيفِ فيهِ بوجهٍ ما.
لكن ينبغي أن لا تُفهمَ هذهِ القاعدةُ على وجهٍ يتناقضُ مع الضَّوابطِ السابقةِ للمصلحةِ، فلا بدَّ للتّخفيفِ أن لا يكونَ مُخالفًا لكتابٍ ولا سنّةٍ ولا قياسٍ صحيحٍ ولا مصلحةٍ راجحةٍ.
ومن المصالحٍ ما نصَّ على حُكمةِ الكتابِ والسّنةِ كالعباداتِ والعقودِ والمعاملاتِ، وهذا القسمُ لم يقتصرْ نصُّ الشَّارعِ فيهِ على العزائمِ فقط، بل ما من حُكمٍ من أحكامِ العباداتِ والمُعاملاتِ إلّا وقد شرعَ إلى جانبهِ سُبُلَ التَّيسيرِ فيهِ. فالصلاةُ مثلاً شُرِعَتْ أركانُها وأحكامُها الأساسيَّةُ، وشُرِع َإلى جانبها أحكامٌ ميسّرةٌ لأدائِهَا عند لحوقِ المشقَّةِ كالجمعِ والقَصرِ والصلاةِ من جلوسٍ. والصومُ أيضاً شرعَ إلى جانبِ أحكامهِ الأساسيّة ِرخصةُ الفطرِ بالسّفرِ والمرضِ. والطهارةُ من النَّجاساتِ في الصَّلاةِ شرعَ معها رخصةُ العفوِ عمّا يشقُّ الاحترازُ منهُ. وأوجبَ اللهُ سبحانهُ وتَعالى الحجابَ على المرأةِ، ثمَّ نهى عن النظرِ إلى الأجنبيةِ، ورخّصَ في كشفِ الوجهِ والنظرِ إليهِ عندَ الخِطبةِ والعلاجِ، والتقاضي والإشهادِ.
إذًا فليسَ في التّيسيرِ الّذي شرَّعَهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى في مُقابلةِ عزائمِ أحكامهِ ما يخلُّ بالوفاقِ مع ضوابطِ المصلحةِ، ومعلومٌ أنَّهُ لا يجوزُ الاستزادةُ في التَّخفيفِ على ما وردَ بهِ النّصُّ، كأن يُقالَ: إنّ مشقَّةَ الحربِ بالنسبةِ للجنودِ تقتضي وضعَ الصّلاةِ عنهم، أو يقال: إن مشقَّةَ التحرّزِ عن الربا في هذا العصرِ تقتضي جوازَ التعاملِ بهِ، أو يقال: إنّ مشقَّةَ التزامِ الحجابِ في بعضِ المجتمعاتِ تقتضي أن يُباحَ للمرأةِ التبرّجُ بدعوى عمومِ البلوى بِهِ.