تعودُ عادةُ التدخينِ إلى عهدٍ غابرٍ سحيقٍ في القِدَمِ، وحسبُ ما تنصُّ عليهِ المصادرُ الصينيةُ، وكذلكَ حسب قولِ المؤرخِ اليوناني القديمِ هيرودت فإنَّ المدخنينَ الغابرينَ كانوا يحرقونَ أعشاباً معينةً، ومنْ ثمَّ يستنشقونَ دخانَها. ليسَ هذا فقط، بلْ حتى أنَّهم توصَّلوا في ذلكَ الحينِ إلى استعمالِ المشاربِ المختلفةِ لهذا الغرضِ! تلكَ المشاربُ التي لا تزالُ أشكالُها الأثريةُ باقيةً إلى يومِنا هذا على وجهاتِ التحفِ الصينيّةِ القديمةِ.
ولمْ تَلِجْ عادةُ التدخينِ عالمَ أوروبا إلا في نهايةِ القرنِ الخامسِ عشرَ ، حيثُ عرفَها سكانُ هذهِ القارةِ عنْ طريقِ بحّارَةِ المكتشفِ كريستوف كولومبس . وقدْ حدثَ هذا عامَ 1492م حيثُ كانتِ الدولُ الأوروبيةُ الكبيرةُ آنذاكَ تبحثُ جادةً عن أكثرِ الطرقِ اختصار للوصولِ (إلى بلدِ الخيراتِ الخياليّةِ). . الهند. وحدثَ أنْ اتجهَ صوبَ هذهِ الوُجهةِ، سَويةً معَ بحّارتِهِ، رجلٌ شجاعٌ يُدعى كرتيستال كولون، عُرفَ فيما بعدُ ب كريستوف كولومبس. ولقدْ كانَ هذا البحّارُ يجوبُ ببواخرهِ طويلاً عرضَ البحارِ، وبينَ جُزرِ الباهامِ المتعددةِ، المنتشرةِ في المحيطِ الأطلسي قربَ شواطئِ أمريكا، إلى أنْ وصلَها في الثاني عشر من شهرِ تشرين الأول عام 1942م.
وخلال وجودِ البحّارةِ هناكَ لفتَ أنظارَهم أنَّ سكاّنَ هذهِ الجُزرِ كانوا يستنشقونَ بشغفٍ دخانَ أوراقٍ ما مُشتعلةٍ، ملفوفةٍ على شكلِ قصبةٍ. وكما يثبتُ كريستوف كولومبس ذاتهُ في اليومياتِ التي كان يكتبُها، فإنَّ هذهِ الأوراقَ السحريّةَ، تعودُ إلى نباتٍ يُطلِقُ عليهِ السكانُ المحليونَ اسمَ ال ((بتيون))، ثمَّ تغيَّرَ هذا الاسمُ فيما بعدُ في تركيا حيثُ أصبحَ. . ((تيوتيون))، أي تبغ .
ومعْ أنَّ الراهبَ الديني الذي صَحِبَ سفنَ كولومبس كانَ قد مَنعَ البحّارةَ كلّياً مِن استنشاقِ (الدخانِ الغدّارِ) لأوراقِ ((البتيون))، إلا أنَّ بعضاً منهم استطاعَ أن يخفيَ كميّةً منها، ولو بحذرٍ، حاملينَ إيّاها معهم إلى إسبانيا، حيثُ أخذوا يدخّنونَها أمامَ الأعينِ المندهشةِ لأقاربِهم وأصدقائِهم.
تلكَ هي بالذاتِ بدايةُ التدخينِ في أوروبا.
وتُخبرُنا كتبُ التاريخِ عنْ أنَّ هناكَ تقليداً كانَ يُتّبعُ عندَ عقدِ الصُّلحِ ما بينَ قبيلتينِ متنازعتَينِ، يتضمنُ تدخينُ (مشربُ السلامِ) وسطَ حفلٍ مهيبٍ، وبحضورِ أعدادٍ هائلةٍ مِن كِلا القبيلتَينِ، يَلزمونَ الصمتَ المطبقِ. . إلى حينِ نهايةِ تدخينِ (المشربِ).
ولمْ يَتمْ وصفُ التدخينِ بشكلٍ وافٍ إلا عامَ 1496م مِن قِبَلِ القسِّ الإسبانيِّ دومانوبينو ، أحدِ المساهمينَ في الحملةِ الاكتشافيّةِ الثانيةِ لكريستوف كولومبس إلى ( العالمِ الجديدِ ) ، حيثُ تمكّنَ مِن أنْ يَجلبَ معهُ بذورَ التبغِ إلى مُقاطعةِ سان دومينغو في إسبانيا .
وخلالَ القرنِ السادسِ عشرَ، دخلَ نباتُ التبغِ في عدادِ النباتاتِ الطبيّةِ (ذاتِ الإمكانياتِ العلاجيّةِ) التي لا حصرَ لها! وعلى الأخصِّ فيما يتعلّقُ بعلاجِ الأمراضِ الزهريّةِ، ولا شكَّ أنَّ هذا الأمرَ كانَ قدْ ساعدَ على إعلاءِ شأنهِ. أمّا أكبرُ شهرةً اكتسبَها التبغُ آنذاك، فقدْ كانَتْ في عامِ 1560م، وذلكَ عندما أرسلَ السفيرُ الفرنسي في ليسابون – جان نيكو – إلى ملكتِهِ ماديا مديجي ، مسحوقاً من أوراقِ التبغِ ، راجياً إيّاها أنْ تستنشقَ من عبيرِهِ ، عندما يعاودُها وجعُ رأسِها الشقيقي ! وبالطبعِ فقدْ كانَ هذا كافياً لأنْ يبدأَ الناسُ في أوروبا كلِّها التحدثَ عن التبغِ باعتبارِه (نبات الملكة). .(نبات السفير ) . . (النبات الذي يشفي كلَّ الأمراضِ)!!
ففي عام 1649م حرّمَ البابا أوربان السابعِ التدخينَ على العالَمِ الكاثوليكيِّ، أمّا الطائفةُ الكلفينيّةُ، فقدْ أضافَتْ إلى الوصايا السماويّةِ العشرِ وصيةً أخرى، هي . . . لا تُدخنْ! . وحينَ ازدادَ عددُ حوادثِ التسمّمِ التبغيِّ ، اضطرَّ كثيرٌ منْ رجالِ الدولةِ في القرونِ الوسطى ، ممّنْ كانوا مقتنعينَ بتأثيرهِ الضارِّ ، إلى سَنِّ القوانينَ التي حرَّمتْ تعاطِيه بأيِّ شكلٍ كانَ !
ويحدّثُنا تاريخُ روسيا القيصريةِ مثلاً – حيثُ جُلِبَ التبغُ إليها في بدايةِ القرنِ السّابعِ عشرَ – أنَّ أوامرَ القيصرِ الروسيِّ ميخائيل رومانف ، كانَتْ تنصُّ على جَلدِ مَن يُعثرُ عليهِ متلبّساً ب ( جريمةِ ) التدخينِ ! . أمّا القيصرُ ألكسي رومانف ، فقدْ أصدرَ عامَ 1649م قانوناً حرّمَ فيهِ التدخينَ بتاتاً . ولمْ يُصرّحْ بالتدخينِ علانيةً في روسيا إلا على يدِ القيصرِ بيتر فليكي ، الذي كانَ هو ذاتُه مدخناً وَلِعاً ، تَعلَّمَ التدخينَ في هولندا . ورغمَ ذلكَ فقدْ كانَ هذا السماحُ مقترناً بدفعِ ضريبةٍ جمركيةٍ لصالحِ خزينةِ الدولةِ
آخرُ الإحصاءاتِ الطبيةِ في أضرارِ الدخانِ [ص47 ]
في اليومِ العالمي للامتناعِ عنِ التدخينِ 31 آيار / مايو 1998م ، وُزعَتْ نشرةٌ عن منظمةِ الصحةِ العالميةِ ابتُدئت برسالةٍ من المديرِ العامِ ، ثمَّ تلتْهَا رسالةٌ من المديرِ الإقليمي لشرقِ المتوسطِ ، والرسالةُ في 39 صفحةٌ كبيرةٌ ، أذكرُ هنا ما فيها في إيجازٍ :
ابتدأَ المديرُ العامُ د . هيروشي ناكاجيما بقولهِ :
منذُ قرابةَ نصفِ قرنٍ والأدلةُ متوافرةٌ لدينا على أنَّ التبغَ قاتلٌ . فلا يكادُ يمرُّ يومٌ إلا وتطالعنا نتائجَ دراسةٍ جديدةٍ تقدِّمُ مزيداً من الأدلةِ على مخاطرِ استخدامِ التبغِ .
التبغُ يقتلُ عشرةَ آلافِ شخصٍ كلَّ يومٍ
تتحدثُ الأرقامُ حديثاً واضحاً كلَّ الوضوحِ. فاستخدامُ التبغِ في العالَمِ قدْ أصبحَ جائحةً عالميةً كثيرةَ الأبعادِ، دونَ أنْ تقومَ دلائلٌ واضحةٌ تشيرُ إلى انحسارِها. ففي كلِّ عامٍ يسببُ التبغُ وفاةَ ثلاثةِ ملايينِ ونصفِ مليونِ شخصٍ في بلدانِ العالَمِ، وهذا يعني أنَّ حوالي عشرةَ آلافِ وفاةٍ تَحدثُ كلَّ يومٍ بسببِ التدخينِ. وإذا استمرّتِ الاتجاهاتُ الحاليةُ فإنَّ هذا العددَ سيزدادُ إلى عشرةِ ملايينِ وفاةٍ سنوياً في العشرينياتِ أو الثلاثينياتِ من القرنِ القادمِ، وسيكونُ حوالي سبعةَ ملايينَ من هذهِ الوفياتِ في البلدانِ الناميةِ. كما أنَّ استمرارَ اتجاهاتِ استهلاكِ التبغِ على حالِها يعني أنَّ التبغَ سيقتلُ أكثرَ من خمسمائةِ مليونِ شخصٍ ممنْ يعيشونَ اليومَ في عالَمِنا.
تدلُّ الأبحاثُ على أنَّ أخطارَ التدخينِ أكبرُ كثيراً مما كانَ يُظَنُّ في الماضي.
التبغُ سببٌ معروفٌ أو محتملٌ للوفاةِ بهذهِ الأمراضِ:
1-السرطانُ في:
الشفةِ ومجرى الفمِ والبلعومِ.
المريءِ.
البنكرياسِ.
الحنجرةِ.
الرئةِ، والرغامى (القصبة الهوائيّة ) ، والشُعبِ الهوائيّةِ .
المثانةِ، الكلى وسائرِ أعضاءِ الجهازِ البولي.
2- الأمراضُ القلبيّةِ الوعائيّةِ:
مرضُ القلبِ الروماتيزمي.
ارتفاعُ ضغطِ الدمِ
مرضُ القلبِ الإفقاريّ (بنقصِ الترويةِ).
مرضُ القلبِ التنفسي المنشأ.
أمراضُ القلبِ الأخرى.
أمراض الأوعية الدماغية.
التصلب العصيدي.
أم الدم الأبهرية.
أمراضُ وعائيةٌ أخرى.
3- الأمراضُ التنفسيّةِ:
السِّل.
الالتهابُ الرئوي والإنفلونزا.
الالتهابُ القصبي (الشُّعبي) والانتفاخُ الرئوي .
الرّبو.
انسدادُ المجاري الهوائيّةِ المُزمنُ.
4- أمراضُ الأطفالِ:
نقصُ وزنِ الوليدِ.
متلازمةُ الضائقةِ التنفسيّةِ.
أمراضُ الجهازِ التنفسيّ في الولدانِ (الأطفالِ الحديثي الولادةِ).
متلازمةُ الوفاةِ المفاجئةِ للرضيعِ.
سرطانُ الرئةِ وأمراضٌ أخرى يسببُها التدخينُ القسري (التدخينُ السلبي).
الحرائقُ التي تسببُها موادُ التدخينِ.
وتحتَ عنوان: دخانُ التبغِ في الجوِّ المحيطِ بالإنسانِ يلحقُ أضراراً بالغةً بصحةِ غيرِ المدخنينَ :
يحتوي دخانُ التبغِ في الجوِّ المحيطِ بالإنسانِ على كلِّ العواملِ المسرطنةِ والسامّةِ التي يستنشقُها المدخنُ مباشرةً. وتزدادُ الأدلةُ وتتعاضدُ على الآثارِ الصحيةِ الخطيرةِ المترتبةِ على استنشاقِ دخانِ التبغِ في الجوِّ المحيطِ، سواء من قِبلِ البالغينَ أو من قِبل الأطفالِ . وتعتبرُ هذه النتائجُ سبباً قوياً يدعو إلى اتخاذِ سياسةٍ سريعةٍ وصارمةٍ تَحدُّ من التدخينِ في الأماكنِ العامةِ.
يُستخدمُ التبغُ بدونِ تدخينٍ في صورٍ كثيرةٍ في بلدانِ العالَمِ المختلفةِ.
لقد ثبتَ على وجهِ اليقينِ أنَّ استخدامَ التبغِ بدونِ تدخينٍ، بما في ذلكَ التبغِ الذي يتمُّ تعاطيهِ استنشاقاً أو مضغاً، يسببُ سرطانَ الفمِ، الذي يُعتبرُ واحداً من أنواعِ السرطانِ العشرِ الكبرى في العالَم، كما يسبّبُ تراجعاً في اللثّةِ لا يمكنُ تعويضُه، وأمراضاً أخرى في الفمِ ، وهو طريقةٌ تؤدي إلى إدمانِ النيكوتين ، كما يسبّبُ تعاطي التبغِ بدونِ تدخينٍ الأمراضَ القلبيّةِ الوعائيةِ