ما حكمُ أخذِ عوضٍ ماليٍ مقابلَ التنازلِ عن حقٍّ كتسجيلٍ على عقارٍ أو عن دورٍ في وظيفةٍ أو عملٍ أو دور في شراءِ سلعةٍ ؟
الجواب :
هذه المسألة تندرجُ ضمنَ التنازلِ عن حقٍ غيرِ ماليٍ بعوض.
وهو في زماننا وجوهُه كثيرةٌ، كمن يعطي دورَه أو اسمَه لآخرَ مقابلَ مبلغٍ ماليٍ يأخذه المعطي.
وكذا يتنازل بوظيفته لآخرَ مقابلَ مبلغٍ يأخذه
أو يفرغ له محلاً مستأجراً مقابل مالٍ ويسمى فروغاً.
ويُسمى ذلك عند الفقهاء بالإسقاط، والفراغ، ووجه التسمية بذلك أن الفراغ الخلاء، والإفراغ الإخلاء، فالمُتنازل يُفرغ المحل من حقه ليكون الحق لغيره. وهذه المسألة تخرج مخرج التنازل عن الوظائف بعوض.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (19/ 277):
” الْفَرَاغُ وَالإْفْرَاغُ : يَظْهَرُ مِنَ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا التَّنَازُل عَنْ حَقٍّ مِنْ مِثْل وَظِيفَةٍ لَهَا رَاتِبٌ مِنْ وَقْفٍ وَنَحْوِهِ. أَوِ التَّنَازُل عَنِ الْخُلُوِّ مِنْ مَالِكِهِ لِغَيْرِهِ بِعِوَضٍ، فَهُوَ بَيْعٌ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ خُصَّ بِاسْمِ الإْفْرَاغِ تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الْبَيْعِ الَّذِي يَنْصَرِفُ عَنْهُ الإْطْلاَقُ إِلَى بَيْعِ الرَّقَبَةِ ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ فَرَاغًا لأِنَّ مَالِكَهُ لاَ يَمْلِكُ رَقَبَةَ الأْرْضِ بَل يَمْلِكُ حَقَّ التَّمَسُّكِ بِالْعَقَارِ أَوْ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ ” .
وهذه المسألة هي من مسائل الخلاف بين فقهاء الشريعة :
قال ابن نجيم الحنفي، رحمه الله في الأشباه والنظائر، ص 178: ” الْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا .
كَحَقِّ الشُّفْعَةِ ؛ فَلَوْ صَالَحَ عَنْهُ بِمَالِ بَطَلَتْ وَرَجَعَ بِهِ وَلَوْ صَالَحَ الْمُخَيَّرَةَ بِمَالِ لِتَخْتَارَهُ بَطَلَ وَلَا شَيْءَ لَهَا ، وَلَوْ صَالَحَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ بِمَالِ لِتَتْرُكَ نَوْبَتَهَا لَمْ يَلْزَمْ وَلَا شَيْءَ لَهَا ، هَكَذَا ذَكَرُوهُ فِي الشُّفْعَةِ .
وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ الْوَظَائِفِ فِي الْأَوْقَافِ .” انتهى.
قال الشافعي رحمه الله في “الأم” (5/ 203): ” : وَلَوْ أَعْطَاهَا مَالًا عَلَى أَنْ تُحَلِّلَهُ مِنْ يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَا فَقَبِلَتْهُ فَالْعَطِيَّةُ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ لَهَا وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ لَهَا فَيُوَفِّيَهَا مَا تَرَكَ مِنْ الْقَسْمِ لَهَا لِأَنَّ مَا أَعْطَاهَا عَلَيْهِ لَا عَيْنَ مَمْلُوكَةً وَلَا مَنْفَعَةً ” انتهى.
قال الإمام الشربيني رحمه الله وهو يتحدث عن أحقية الاختصاص لا الملك: ” لَكِنْ الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ: أَيْ أَحَقِّيَّةُ اخْتِصَاصِ الْمُتَحَجِّرِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ ، وَلَا هِبَتُهُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ خِلَافًا لِلدَّارِمِيِّ ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَلَكِنْ لَهُ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَإِيثَارُهُ بِهِ كَإِيثَارِهِ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ ، وَيَصِيرُ الثَّانِي أَحَقَّ بِهِ وَيُورَثُ عَنْهُ .” [مغني المحتاج 3/ 504].
قال في حاشية الصاوي على الشرح الصغير (2/ 508):
(وَجَازَ شِرَاءُ يَوْمِهَا مِنْهَا بِمَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، وَهَذَا مِنْ بَابِ إسْقَاطِ حَقٍّ وَجَبَ فِي نَظِيرِ شَيْءٍ لَا بَيْعٍ حَقِيقِيٍّ.)
وكذا أجاز بعض المتأخرين من الحنفية النزول عن الوظائف في مقابل مال ،
قال ابن عابدين في مسألة ترك الضرة نوبتها لضرتها مقابل مال:
(وَلَا يُقَالُ إنَّهُ مِثْلُ أَخْذِ الْعِوَضِ فِي النُّزُولِ عَنْ الْوَظَائِفِ، لِأَنَّ مَنْ أَجَازَهُ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ وَلَا عُرْفَ هُنَا فَتَدَبَّرْ نَعَمْ ذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمِنْ خُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى مَالٍ جَوَازُ النُّزُولِ عَنْ الْوَظَائِفِ بِالدَّرَاهِمِ وَأَنَّهُ أَفْتَى بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالشَّيْخُ نُورُ الدِّينِ الدَّمِيرِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشِّيشِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ. قُلْت: وَاضْطَرَبَ فِيهِ رَأْيُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَفْتَى الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ بِعَدَمِهِ.) الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (3/ 206)
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَيْنِيُّ فِي فَتَاوَاهُ: لَيْسَ لِلنُّزُولِ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ وَالْحُكَّامَ مَشَّوْا ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ اهـ.